لا أحد يستطيع أن يمنع الكبار أن يحلموا فالحلم حقٌ إنسانيٌ لا جدال فيه
و لكنني أقف في صفوف الفقراء لأحتفظ و إياهم بحقي في مراقبة الحلم.
هل سيدخلنا الحلم جنات عدن؟ هل سنتوسد الأرائك و تحفنا الغلمان و الحور العين حاملة خمرة الحب في كؤوس مترعة؟
هل سيعم السلام العالم و تعود القدس لنا ؟
حين يصير الحلم أكبر من الحالم يتحول إلى كابوس مرعب لمئة عام مقبلة.
كل ما تقوله الصحف و الإنترنت و رجال الأعمال و الدبلوماسيون عن الحلم لا يعنيني.
ما يعنيني أنا الفقيرة الغنية بعشقي الخرافي لحمص هو ماذا سأروي لأولادي عن معاني الحلم و كيف سأفسره لهم و انا لست ابن سيرين و لا أملك من فنون التفسير سوى قلب صغير تعلق بأهداب أم رؤوم شابت ذوائبها و هي تروي الياسمينة و الفلة و القرنفلة؟
كان من الممكن أن أتجاهل التفسير و أقول لهم إنها مجرد أضغاث أحلام ما عليكم إلا أن تلتفتوا يسرة وتنفثوا ثلاث مرات قائلين ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) و لا تروا حلمكم لأحد مغبة أن يقع ...
و لكن حين تلامس الرؤية أقدار أولادي يختلف الموضوع و لا أستطيع أن أتجاهله.
هنا يتداخل الحلم بالواقع كتداخل السكين في أنسجة القلب...إنّها سكين مصمّمة حسب المواصفات العالمية القياسية .. حضارية بكلّ المعايير ، نال مصممها براءة اختراع لأنّه استطاع أن يزوّدها برأس نووي فأصبحت تضاهي كل سكاكين العالم بقدرتها على اختراق شغاف القلب... و استطاعت هذه السكين أن تقطع نياط الروح و أن تجتثّ همزات الوصل بيني و بين أولادي ببراعة المحترف ...
هذه هي مشكلتي مع الحلم و مشكلة كل الأمهات و الآباء من شرق حمص لأقصى غربها ...
لقد شعروا فجأة أن الأرض تميد من تحتهم و أنّ الآثار الجانبية للدواء الذي وصفه الأطباء لشفاء علة التخلف في حمص بدأت تفعل فعلها و لربّما أدت إلى تغيير زمرة دمهم و لون بشرتهم و صوت ضحكتهم و لربّما يشيخ من تأثيرها الولدان و لربّما تسقط بسببها أسنان الشباب دفعة واحدة ... و عندما يصبح الإنسان بلا أسنان يسهل عليه أن يقول ( حرامٌ عليكم أن تعضوا أيها الإخوان )
إلى هذا الحدّ أنا متورطة مع أولادي... إلى هذا الحدّ أعجز عن إيجاد لغة للتخاطب بيني و بينهم
هل سأحرق ميراث أبي و صناديق أمي العتيقة ؟؟ هل سأبلّ قصائدي الحمصية و أشرب ماءها؟ هل سأفجّر بعبوة ناسفة كلّ الخرائط الذهنية للعدية ؟؟؟ هل سأمحو بضغطة زر واحدة كلّ الأهازيج الشعبية التي لقنتني إياها جدتي يوماً على ضفاف أبو سمرة تحت عرائش الميماس ؟
غلطة الكبار أنهم يحلمون وحدهم و ينسون نصيب الصغار من الحلم...
وفي مساحة دافئة كأرض حمص ينام فيها الناس على جرح واحد و يصحون على جرح واحد تصبح الأحلام الفردية ترفاً غير مسموح به...
و على هذه المساحة الآمنة لا مكان للصواعق التي تزلزل الأركان و لا مجال للأمطار الإستوائية التي تغرق الأزمان و لا مبرر لكلّ التناقضات الجوية التي لم تعتدْ عليها أشجار نيسان...
غلطة الكبار أنهم انفصلوا عن الحلم العام و بدؤا يحلمون لحسابهم الخاص لأنهم أرادوا أن تزداد أرصدتهم في المصارف و لأنهم أمعنوا في المغالاة بطموحاتهم إلى حدّ الاستمراء و لأنهم أصيبوا بجدري المال الذي لا ينفع معه لقاح أو دواء .
ماذا سأقول لأولادي أنا التي أغراني والدي يوماً أن أحلم باستعادة الأندلس و استرجاع مزارع الدراق في غرناطة بعد أن أصلي ركعتين في الأقصى و أحتسي فنجان قهوة في بيارات البرتقال في يافا و ألقي أمسية شعرية حول الكرامة العربية في المركز الثقافي العربي في غزة؟
قال لي والدي يومها أن مفتاح القدس ثلاثيّ الأبعاد يتكون من أقانيم ثلاث: الإيمان و العلم و الكفاح
هذي الأقانيم الثلاثة كيف تهزم إذا ما اجتمعت ؟
و اليوم ... آه من اليوم ... لقد تغيّرت ملامح أحلامي و تعذّر عليّ أن أرسمها لأولادي
وحدي وسط هذه الشوارع المكتظة أسير و قد ملأني الشعور بانعدام الوزن... ألم يعد هناك جاذبية أرضية في حمص ؟؟؟
أتعثر في مشيتي و أتلعثم في حروفي كلّما سألني أولادي عن تاريخ أجدادي و يتحول لون وجهي إلى مزيج من الشمع و الزعفران ... أليس هذا لون وجه الحقيقة ؟؟؟
و لوجه الحقيقة أقول أنّ حلم حمص ليس فيه خروج على الحلم العربي و ليس فيه تفريط بحق الشعب بتحقيق التقدم و نزع عباءة التخلف و نقاب الجهل...
مشكلة الحلم لم تكن مشكلة نصّ بقدرما كانت مشكلة المكان الذي اختير لقراءة النصّ... فحين يطير الحلم بجناحين من شمع لابدّ أن يذوبا تحت شمس النهار
لقد أخطأ صانعوا الأحلام حين حاولوا أن يزرعوا وردة في أرض شديدة الملوحة و أخطئوا حين لم يدرسوا مكانيك التربة و بينية الطبقات الجيولوجية للعقلية الحمصية و لم يدركوا مدى استعدادها لتطاول البنيان و انحسار رقعة البركان...
أخطئوا حين لم يدركوا أن اختراق خط بارليف أهون بكثير من اختراق جدران قلعة حمص لأن اختراقه يعني اختراق شغاف القلب النابض بعشق هواء العدية
لقد ركب صانعوا الأحلام الطائرة وحدهم و حلّقوا في فضاءات الحلم دون أن يحجزوا أماكن تكفي لكل الركّاب الحمامصة و نسوا أن الرحلة دونهم رحلة عبثية لأنها ستطير ضدّ الريح و ضدّ التاريخ
فلتنهضي يا قوات الردع الحمصية و لتعلني حروب الردّة من جديد ... قاومي ذلك التيار الذي سيجرفك بعيداً عن جذورك و يطمس معالمك و ويغير ملامح وجهك الفاتن ... لا تغتري بما يسمونه عمليات تجميل إذ لا بديل عن الجمال الرباني الذي يراه العاشق في وجه معشوقه و إن حفر الزمن أخاديده فيه و حوّله إلى ما يشبه البرتقالة الهرمة ... إن سر جمال البرتقالة الهرمة يكمن في أنها تختصر الأبعاد و تلغي المسافات على تضاريس الجسد الواحد لتزداد القلوب اقترابا و تتأجج حبا و التصاقاً....