لم تعرف اللغة العربية كاتبا مرحا خفيف الظل محبا للدعابة والنكتة النادرة مع مافيه من اتقان للأسلوب
وإحكام نسجه مثل الجاحظ فقد كانت الفكاهة ملكة فطرية لديه تستند الى أمور كثيرة من أهمها المعرفة
الشديدة بالناس وطرائقهم ونظرة الى بعض مؤلفاته مثل:البخلاء والبيان والتبيين والحيوان وما ضمنته من
الفكاهات والنوادر والملاحظ أنّ طبيعة الهزل والسخرية والضحك والإضحاك قد لازمت الجاحظ حتى نهاية عمره.
_ومن نوادر الجاحظ والتي تدل على أنه كان في ايراد نوادره محبا للإستقصاء والتتبع لكل صغيرة وكبيرة في
موضوع النادرة حتى تخرج متكاملة الجوانب متسقة الأداء مارواه عن أحد معلمي الكتاتيب وكيف أنهم لطول
معاشرتهم للصبية الصغار تطيش عقولهم ويفقدون صوابهم وينتهون الى الجنون...ويقابل الجاحظ واحدا منهم
ولكنه يغير فكرته عنهم لما رآه منه من سمت ووقار وعلم ورجاحة عقل ويتقرب اليه ولكن الحال ينقلب بعد ذلك على نحو هزلي....يقول الجاحظ:
كنت قد أفت كتابا عن نوادر المعلمين وماهم عليه من الغفلة ثم رجعت عن ذلك وعزمت على تقطيع الكتاب
فدخلت يوما قرية فوجدت فيها معلما في هيئة سنة فسلمت عليه فرد علي أحسن رد ورحب بي فجلست عنده وباحثته في القرآن فإذا هو ماهر ثم فاتحته في الفقه والنحو وعلم العقول وأشعار العرب فإذا هو كامل
الأدوات فقلت هذا والله مايقوي عزمي على تقطيع الكتاب.
وكنت أختلف اليه وأزوره فجئت يوما لزيارته وطرقت الباب فخرجت اليّ جارية وقالت: ماتريد؟؟
قلت:سيدك.فدخلت وخرجت وقال:بسم الله فدخلت اليه فإذا به جالسا كئيبا فقلت عظم الله أجرك
((لقد كان في رسول الله أسوة حسنة)) ((كل نفس ذائقة الموت)) فعليك بالصبر!ثم قلت له:هذا الذي توفى
والدك؟؟قال:لا قلت:والدتك؟؟قال:لا قلت: فأخوك؟؟قال:لا قلت:فزوجتك؟؟قال:لا قلت فما هو منك؟؟قال:حبيبتي
فقلت في نفسي هذه أول المناحس فقلت سبحان الله النساء كثير وستجد غيرها فقال: أتظن أني رأيتها؟
قلت هذه منحسة ثانية ثم قلت وكيف عشقت من لم تر؟؟فقال أعلم أني كنت جالسا في هذا المكان وأنظر
من الطاقة( النافذة الصغيرة) إذ رأيت رجلا عليه برد وهو يقول:
يا أم عمرو جزاك الله مكرمة
ردِّي علي فؤادي أين ماكانا
لاتأخذين فؤادي تلعبين به
وكيف يلعب بالإنسان إنسانا
فقلت في نفسي لولا أن أم عمرو هذه مافي الدنيا أحسن منها ماقيل فيها هذا الشعر فعشقتها فلما كان مذ يومين مرَّذلك الرجل بعينه وهو يقول:
لقد ذهب الحمار بأم عمرو
فلا رجعت ولا رجع الحمار
فعلمت أنها ماتت فحزنت عليها وأغلقت المكتب وجلست في الدار.
فقلت ياهذا أني قد ألف كتابا في نوادركم معشر المعلمين وكنت حين صاحبتك قد عزمت على تقطيعه
والآن قد قويت عزمي على بقائه وأول ما أبدأ به بك إن شاء الله. 