آرتين لتعليم اللغات https://forum.art-en.com/ |
|
خيط الدم https://forum.art-en.com/viewtopic.php?t=26163 |
صفحة 1 من 1 |
الكاتب: | Safwat [ الجمعة ديسمبر 09, 2011 2:28 am ] |
عنوان المشاركة: | خيط الدم |
انتظر هذا اليوم طويلاً، لقد انتهت الرّحلة، وصار أخيراً في الطريق، غمرته الفرحة حتى أعماقه، فانفرجت أساريره. ازداد اتّساع حدقتيه وشدقيه، لا بتأثير لهيب الشمس العمودية، وإنما بسبب ما تنهبه عيناه من مناظر يذكرها، وأخرى يحاول أن يتذكّرها. بقي خلال الدقائق الأولى في حالة شكٍّ من أن الحياة قد دبّت فيه من جديد، مع أن جسده النحيل يعطي مجرّد إيحاء بذلك، وظنّ أنها ستكتمل بعد نصف ساعة على الأكثر، بعد مرور عقديْن من الغربة والعلقم. دفعته ذكرياته المتلاحقة إلى الإسراع، حتى إن حنينه اللافّح سبق خطواته اللاّهثة. فجأةً توقف أمام هاتف للعموم، وفكّر.. ربما كان من الأفضل أن يسقيهما خبر عودته على جرعات، وهذا بحدّ ذاته سيخفّف من نار اللقاء التي اشتهاها، وما تساءل عن قدرته على احتمال لهيبها. لا يزال يذكر أبنيةٌ وشوارع وأرقاماً، بإصبعٍ راجفة.. لامس أرقاماً تحولت إلى نغمةٍ متقطعة تنقر حاسّة سمعه. ودون جدوى أعاد المحاولة ثانية وثالثة... وسابعة، انتظر على الرصيف، وأشعل سيجارة راح يمجّها مجّاً غليظاً. تقاذفته الأمواج والأفكار، والأشخاص والأيام المقبلة. أعاد المحاولة فسمع صوتاً فتيّاً لم يسمعه من قبل، جعله يتلعثم ويرتجف، يبكي ويضحك معاً. كانت صاحبته قد أطبقت عينيها قبل لحظات بهدوءٍ واسترخاءٍ شديدين على أحلامٍ ورديّة. -ألو... خانته الكلمات. حبس أنفاسه، لكنه لم يُفلح في جمع قواه. ثم قال بصوتٍ خفيضٍ متقطع: -لعلّك أمل!؟.. قالت في توجّسٍ وخوف: -من يتكلّم؟ دارت في رأسه أفكارٌ وتلاطمت أمواج، لكنه حافظ على هدوئه، وقال: - لا بدّ أنك أمل. أليس كذلك؟ ثم أردف: - كم تمنيت أن أراك قبل أن أموت. لم تسمع نحيبه لأنها أغلقت السمّاعة بشيءٍ من العصبيّة والقلق. وحين رنّ الهاتف ثانية تودّد إليها، وقال: -أرجو أن تسمعيني. -إذا اتّصلت ثانية فسأجعلك تندم. وقبل أن تعيد السماعة سمعته يسأل: -هل السيدة أمينة موجودة؟ -آه.. إنه يعرفني ويسأل عن أمي. من أنت؟ اختلطت دموعه بكلماته التالية: -أحبُّكما. ما بقيت على قيد الحياة إلا من أجلكما. تماسكت قليلاً، وحاولت أن تستعيد هدوءها -أرجوك. من أنت إذاً؟ -أظنّكِ في الرابعة والعشرين، أليس هذا صحيحاً؟ لم تسمح لصبرها أن ينفد. لكنها قالت مهدّدة: -إذا لم تخبرني من أنت فسأغلق السماعة. وصدقني.. لن تسمعني من جديد. -لحظة من فضلك. أليس هذا هو رقم بيت عماد؟ شهقت فوراً، تحشرج صوتها، وسألته: -عماد!.. هل قلت عماد؟؟ -نعم.. إنني أحضر لكم رسالة منه. خلال دقائق سأكون عندكم. -رسالة أيضاً؟ قالت في سرّها متعجبّة. أحست بدوار عنيف لم تحسّه من قبل، لكن كلماته أعادتها إلى بعض وعيها. هرعت إلى صورة أبيها المعلّقة على الحائط في غرفتها بعد أن نقلتها من غرفة أمها منذ سنوات، ورنت إلى زرقة بحرٍ في عينيه، وإلى ملامح في وجهه، فتذكّرت أياماً لا تنسى. أما هو، فقد اندسّ إلى جانب السائق في سيارة أجرة، وترك عينيه الجائعتين تلتهمان كل ما تريانه من خلال زجاجها. لم يرَ جديداً مما رآه في الشوارع والأمكنة. الناس فقط كانوا يسرعون في مشيهم خلف اللا شيء، وبدوا له كأنهم لا يعرفون بعضهم بعضاً. دخل بنايةً لم يغب شكلها عن باله، لكن باب الشقة لم يكن بهذا اللون. قرع الجرس ففتحت له صبيّة بان من جسدها أكثر من نصفه، لكنه رآها طفلةً في حوالي الرابعة من عمرها، حملتها عيناه فوراً فوق كتفيه، وراح يدور بها، ويضمّها، يرفعها بكلتا يديه إلى الأعلى، وحين تهبط يأخذها بهما، ويقبّلها. تجرّع وجه الصبيّة دفعةً واحدة، وكان يرتجف، لم يجد كلاماً يقوله، أما هي.. فقد تسلّقته بعينين مبهورتين من "شحّاطته" إلى شعره الأشعثِ مارّة بغابةٍ كثيفةٍ نبتت في لحيته، لملمت بعض إشفاق عليه قدمته إليه بكلمات: -ليس لدينا شيء نعطيك إيّاه. همّت بإغلاق الباب، لكنها تريثت قليلاً، إذ رأت بحراً مُتعباً في عينيه، وأحسّت أن دمها يندفع فاتراً في عروقها، لكنه سرعان ما صار حارّاً، حارّاً جداً، أخفقت في أن تتماسك، وربما أحسّت أنها خُلقت من غير لسان، هوت على الأرض مثل ورقةٍ من أوراق الخريف، فتلّقتها أيادي روحه وجوارحه. أدخلها البيت، اتجه من فوره إلى غرفة نومها ومدّدها على السرير، وراح يربت على خديّها بيدين حانيتين، ويقبّل ربيعها الذي تغلّف بالشحوب. أحس أن أفراحه التي افتقدها بدأت تعود إليه. وبدأت هي تحسّ بأصابعه تغوص في شعرها الذهبي الطويل، وحين ملأ أركان عينيها بكت بحرقة، فلم يستطع تهدئتها تماماً، لأنه كان مثلها، إذ اشتعلت عيناه بالبكاء كما لم تشعلها السنون الماضية. ضمّها إلى صدره، وكاد أن يعصر رأسها فيه وهو يشمّ رائحتها التي لم تفارق أنفه يوماً. ثم سألها عن أمها، فقالت بصوتٍ مخنوق: -هذا موعد وصولها تقريباً. إنها تعمل في مكانٍ قريب. ولكن... فغر عينيه وقال: -ولكن ماذا؟ -لا. لا شيء. لماذا لم تخبرنا عن قدومك؟ -أنت مضطربة. ما الأمر؟ -لا شيء صدّقني. إحك لي بالتفصيل، كيف هوت بكم الطائرة في البحر؟ تساءل بينه وبين نفسه عن أي طائرة تتحدث ثم قال لها: -لم تجيبي عن سؤالي. -قل لي أولاً، كيف نجوت؟ حين همّ بمتابعة الحديث فُتح الباب ودخلت الأم، فركضت أمل باتجاهها، أذهلتها رؤيته فوراً، وانفغر فاها رغماً عنها، مع أن روحها سُرّت لرؤيته. كانت تحبّه، ولم تشعر يوماً أنها أحبت أحداً من بعده. وضعت يدها على صدرها وشهقت غير مصدقة: -عماد!..؟.. تقدم منها فاتحاً ذراعيه، فأسلمت رأسها إلى صدره، ولم تتمالك نفسها فانهمرت دموعها مطراً سخيّاً حُلواً ومالحاً، وسرعان ما اختلط بما جاشت نفسها به من منخريها. ثم تذكرت فجأة شيئاً في هذه اللحظة، فارتدَّت عنه ببطء، وابتعدت قليلاً. وقالت: -لقد فقدت كلّ أمل بعودتك. قال مبتسماً: -وها قد عدت. قالت في سرّها بلهجة مضطربة: -يا إلهي ماذا أفعل الآن؟ ثم قالت له: -كيف أمضيت هذه السنين؟ -إنها قصة طويلة، طويلة. لن نحكي عنها الآن، فلا تحرماني لذّة هذا اللقاء. ثم أردف يقول: -سنحكي عن أيامنا المقبلة. -أيامنا المقبلة؟ قالت في سرّها. تبادلت الأم وابنتها نظرات حيرى، ومانعت الأم أن يضمها من جديد، فأحسّ بغصّةٍ في قلبه، وبأن القدر لم يكمل سخريته منه بعد، وبدأت فرحته تتلاشى، بينما ارتسمت على شفتيه ابتسامة ميتة، وعلى وجهه أسئلة يبحث عن أجوبةٍ لها. انفتح الباب الخارجي، ودخل منه رجل يعرفه تماماً، جعل دمه يضطرب، وعينيه تتطاولان. هرع إليه ضاحكاً باكياً مشوشاً، أخذه بين ذراعيه وقال مندهشاً وفرحاً، ومتسائلاً معاً. - لا أصدق. أخي معين؟؟!. كان أخوه في حالة ذهول أصابه لرؤيته، توقف قلبه مشدوهاً، لكنه سرعان ما اتّحد فيه بكلّيته، وامتزجت دموعهما ببعضهما بعضاً، ثم جلسا، تعتمل في قلب كل منهما سخرية الزمن. كان عماد ينقل عينيه بين الجميع، تلهّفت أذناه لسماع ما أخبره قلبه عنه، فلقد كانت مساماته تشعّ أنيناً مكبوتاً، وأسئلة كثيرة أخرى، أما معين فقد كان ينظر من خلال ستائر عينيه المسدلة. ثم راح الأب يرنو إلى ابنته بعينين واهنتين نائستين، وكانت هي تنظر إلى زرقة بحرٍ هاج في وجهه، وتتمسك بأمواجه المتلاطمة. أما أمينة فقد كانت تنظر بقلبها الحائر إلى الأخوين وهما يتدافعان معاً نحو الباب الخارجي والدم يختلج في قلبيهما، وقد أمسك كل منهما بقبضة الباب بيدٍ متعرقة مترددة، في حين كانت عينا معين تخاطبان أخيه قائلة له: -أخي... لو كنت مكاني؟؟. |
الكاتب: | rehab [ الجمعة ديسمبر 09, 2011 11:28 am ] |
عنوان المشاركة: | خيط الدم |
Safwat, ياه مؤلمة جداً ..... تسابقت العبرات على وجهي من شدة الحزن عنوان في مكانه سلمت يداك أخي صفوة ![]() |
الكاتب: | الأماكن [ الجمعة ديسمبر 09, 2011 1:27 pm ] |
عنوان المشاركة: | خيط الدم |
عانقت قصتك فاغتالتني بجنون ووجدت بين حروفك نكهة مميزه .. هي نكهة التمييز دمتَ دوماً لمتابعيك ومحبيك أيُّها الراااااااااااااااااااااااائع دام حرفكـــ وسلم مدادكـــــ |
الكاتب: | Safwat [ الجمعة ديسمبر 09, 2011 5:09 pm ] |
عنوان المشاركة: | خيط الدم |
rehab, الأماكن, شكرا لكم القصة لصفوان محمود حنوف و هو علم من اعلام حمص في القصة القصيرة |
صفحة 1 من 1 | جميع الأوقات تستخدم التوقيت العالمي+03:00 |
Powered by phpBB® Forum Software © phpBB Group http://www.phpbb.com/ |