عثرات صبية
في ليلةٍ باردةٍ تغطيها غيوم الغموض
و تزاحمها أمطار النقمة وسوء الطالع
خرجت من بيتي الدافئ لأواجه العواصف الحزينة
و أتلقي بحفاوةٍ صفعات البرد القارص
و مشيت و باتجاه هدفي مضيت
حتى استوقفتني لحظةٌ , أنجبت في حياتي لحظات
كان شخصاً غريبا يحدق بي من بعيد
استغربت هذا التحديق
أمعنت النظر , وخلت أنني ربما أعرفه
لثام وجهه محكم بالكاد تتعرف عليه أمه
و لم أستطع أن ألتقط من المنظر سوى زفراته
التي كانت تخترق اللثام كاللهيب
و لمعة عينيه , وحدة لونهما الغريب
و ها هو يقترب نحوي
استغربت أولا التحديق وها أنا أستغرب لحاقه المريب
تساءلت , هل أعرفه , هل يعرفني
و ها قد تبسم لي الطالع قليلاً , وجدت دكاناً
دخلت الدكان لأبتاع شيئاً ساذجاً اخترعت ضرورته الفورية
و عيناي عليه مسلطتان , يا الهي ها هو يقترب مجدداً
زادت ضربات قلبي حتى لاحظ البائع اضطرابي
حاولت تمالك أعصابي , استعدت جرأتي
خرجت من الدكان بكامل ثقتي و كبريائي المعتاد
مشيت في وسط الطرقات , راجيةً أن أصادف ازدحام
حتي أخوض فيه ويضيعني ذلك الغريب
غيرت عدة مرات مساراتي
لم أمشي سوى بالطرق العامة , لم أقرب الأرصفة
و بعد كل هذا التجوال كان شبحه يرافقني لا زال
ماذا أفعل , كيف أهرب , توقف عقلي عن العمل
في تلك اللحظات , قوتي , شجاعتي , بديهتي عطبت
الخطوات تتسارع, ضربات القلب تتسارع
صرت في شبه حالة انهيار
بعدها أيقنت أنه لا مفر ولا مهرب
و لن تكون النجاة إلا في فوّهةِ العاصفة
فبقدري المحتوم رضخت
و بأصعب مواجهةٍ في تاريخ حياتي قررت
( و بعد مرور أكثر من ساعةٍ من المراوغة والفرار
توقفت و بأعلى صوتي صرخت :
من أنت , من تكون , و ماذا تريد
و ما إن وصل حتى اقترب
و كلما اقترب أنا أبتعد
حتى جعلت بيني وبينه أمتار
و قال و في صوته لهثةٌ شديدة ٌ :
اهدئي , اهدئي
(كشف عن وجهه اللثام ) و أطرد الكلام :
لقد رأيتك منذ أشهرٍ و أيام تمشين في هذا المكان
و لاحظت في قسمات وجهك الشموخ والكبرياء
و قد كلله عنفوان صباك الجذاب
لا أدري كيف لحقتك , فليس هذا من شيمي و لا من عاداتي
ولكنك في أيامٍ قلبت كافة الموازين والمعايير في حياتي
و اسمحي لي أن أقول ( و من دون أن أسمح له أن يكمل حديثه )
هدأت أجنحتي , ولملمت انفعالاتي و هممت بالمسير
فقال إلى أين تذهبين و ما بالك لا تردين
و من دون أن يكمل كلماته المصدعة
و بعد كل هذا العناء جاءت لحظة الغباء!!!
لأتفوه بكلمات الرفض الرعناء :
لن أسمح لك بمزيد من الاطراء
أكره أمثالك اللذين يدعون أنهم النبلاء
و لا أؤمن بالحب من أول نظرة
ولا من ثاني نظرة
ولا من سنوات من النظرات البلهاء
......
******************
ثم وقفنا بهدوءٍ تامٍ للحظات
وقد فرّق بيننا جدار من الصمت طوباته الحيرة والأسى و عصفٌ من الأحزان
و كان سقف تلك اللحظات سراباً عموده المستحيل
أيقنت بتلك اللحظات بأني تفوهت بكلماتٍ
مزقت في قلبه كطعنات السكين
و رأيت في عينيه دمعة عاشقٍ مسكين
تراجع رويداً, رويداً و لسانه عاجزٌ عن الكلام
ثم نطق أخيرا ً بكلمةٍ يتيمة ٍ مجروحة , قال :
......آسف .....
حرك شفاهه كأنه يريد أن يقول كلمة ً أخرى و لكنه صمت !!
ثم أرجع اللثام , استدار بسرعةٍ و غادر المكان
وأنا متسمرةٌ في مكاني لم أستطع الرد حتى على كلمته اليتيمة
و ما زلت أترقب خطواته المتسارعة
و بدأت أفكاري تؤنبني
و هنا و هناك تتراشقني
هذا الانسان فعلا حيرني
كان له عينان كالصيف بديعتان
في بريقهما كأنهما شمعتان
بل إنهما نجمتان من الحب تتراقصان
و في ثغره أسرار عشق الإنس و الجان
و في وجهه حسنٌ تجلى بخلقه الرحمن
و ما زاده حسناً , غرزةُ غمازتان
كان نفحة ربيعٍ حر في شتائي المر
كلماته عزفت على مسمعي أعذب الألحان
لا أدري ما حدث لي في تلك اللحظات
ترى هل تلبسني الشيطان !!!
كيف أنزل على مسمعه تلك الكلمات
فوددت ساعتها لو بليت بقطع اللسان
قبل أن أتفوه بكلمات ٍ
كانت على قلبه أشد سماً من القطران
**************************
و ما زلت أراه يمشي من بعيد
هل أناديه أم بحصى الشارع أرميه
و لكنه ابتعد , ابتعد كثيرا ً
ضاع في صفحات الليل
و ها أنا أبحث عنه في صفحاتي
و أرسمه في أحزن لوحاتي
أرسم اللوحة من مشتقات اللون الأسود
و حين أصل إلى وجهه الفتي
أنزف على اللوحة بألوان حياتي
أضع لون الفرح العذري في عينيه
ثم أمزجه بألوان انكساراتي
و أضيف لون الوقار في أنفه ووجنتيه
ثم أرش عليها رشةً من ألوان عثراتي
أما شفتيه فبها أصب ألوانَ جميع قيودي
وبها أصب ألوانَ إطلاق جميع سراحاتي
*****************************
عدت إلى منزلي وحيدة كالعادة
أطارد الظلام , أغوص في لجج تلك الليلة
لعلي أخطف حفنةً من نور
أقلب في طيات الكلام , و أسقط على قلبي أصعب الملام
هل أنت ِ سعيدة ٌ الآن بكبريائك و عظمتك و عنجهيتك المفتعلة
هل أنت ِ راضيةٌ بجرح ذلك الإنسان
و على ماذا حصلت :
على سراباتٍ وضياعٍ و أوهام
ليت علامات الأسى و الحزن تصلك عبر الأثير
و أن لا أكون قد سببت لك بجرحٍ مرير
لو استطعت أن أحدثك الآن
ربما قلت فقط كلمتان
أنا آسفة
_________________
Tired of these endless games, Time to end the darkened day To raise the sword To kill the light Because there is no reason left to fight..."