أهلا بك زائرنا الكريم في منتديات آرتين لتعليم اللغات (^_^)
اليوم هو الخميس آذار 28, 2024 10:39 م
اسم المستخدم : الدخول تلقائياً
كلمة المرور :  
لوحة الإعلانات الإدارية

عذراً أخوتي .. تم إيقاف تسجيل الأعضاء الجدد في آرتين حتى إشعار آخر


آخر المشاركات

  ... آرتين ...   » لابدّ أن أستأذن الوطن .... نزار قباني *  .:. آخر رد: محمدابو حمود  .:.  الردود: 4   ... آرتين ...   » لا يصلح العطار ما افسدة الدهر  .:. آخر رد: محمد الربيعي  .:.  الردود: 2   ... آرتين ...   » مناقشة كتاب"Translation with Reference to English & Arabic"  .:. آخر رد: Jordan  .:.  الردود: 124   ... آرتين ...   » المعرب و الدخيل و المولد ... تتمة  .:. آخر رد: aaahhhmad  .:.  الردود: 6   ... آرتين ...   » تحميل ملف  .:. آخر رد: مصطفى العلي  .:.  الردود: 0   ... آرتين ...   » The Best Short Stories of J.G. bialard The Terminal Beach  .:. آخر رد: المرعاش  .:.  الردود: 0   ... آرتين ...   » هام للطلاب الي بيواجهوا صعوبه بمادة الصوتيا  .:. آخر رد: bassam93  .:.  الردود: 16   ... آرتين ...   » مساعدة مشروع تخرج عن تراجيديات شكسبير  .:. آخر رد: ahmadaway  .:.  الردود: 0   ... آرتين ...   » نتائج سنوات 2009 2010 2011  .:. آخر رد: أبو عمر  .:.  الردود: 0   ... آرتين ...   » نتائج سنوات 2009 2010 2011  .:. آخر رد: أبو عمر  .:.  الردود: 0

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين [ DST ]


قوانين المنتدى


- يمكنكم في أي وقت زيارة قسم مكتبة اللغة الإنجليزية لنشر أو تحميل الكتب أو البرامج المتعلقة بهذا القسم .


إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ مشاركة واحده ] 
الكاتب رسالة
  • عنوان المشاركة: في إعادة ترجمة الأعمال الأدبية المُترجَمة البروفيسور علي القاسمي
مرسل: الأحد كانون الأول 19, 2010 1:21 ص 
مشرف قسم الترجمة في الانجليزية
مشرف قسم الترجمة في الانجليزية
اشترك في: 15 آذار 2007
المواضيع: 226
المشاركات: 4712
المكان: حماة
القسم: English
السنة: Graduated
لا يوجد لدي مواضيع بعد



غير متصل
في إعادة ترجمة الأعمال الأدبية المُترجَمة
البروفيسور علي القاسمي

لماذا تُترجِم ما تُرجِم سابقاً؟
سألني صديق عزيز:  ـ ” لماذا تُترجِم ” الشيخ والبحر” لأرنست همنغواي، وأنتَ تعلم أنّها نُقِلتْ إلى العربيّة عدّة مرّات منذ أكثر من نصف قرن؟”،

نفاد الطبعات القديمة:

كان في ميسوري أن أجيب على سؤاله بعدّة طرق؛ كأن أقول، مثلاً:ـ ” لقد نفدت طبعاتها في السوق. ولم تعد تلك الترجمات متوفّرة للجيل الجديد من القراء الذي ينبغي أن يطّلع على الأعمال الأدبية الكبرى، حتّى لو مرّ عليها زمن طويل. وهذه القصّة بالذات هي أفضل أعمال أرنست همنغواي، الذي يعدّ أشهر أدباء أمريكا على الإطلاق. فهي تعلّم التعلّقَ بالحياة، وتمجّد حبَّ العمل، وتشيد بمواصلة الإنسان نضاله، من أجل السيطرة على الطبيعة وتسخيرها لترقية حياته وزيادة رفاهيته.”

اللغة تتغيّر وتتطوّر:
وكان في استطاعتي أن أجيب قائلاً:
ـ ” إنّ علماء اللغة وخبراء الترجمة يوصون بإعادة ترجمة الأعمال الأدبيّة الخالدة بين حقبة زمنيّة وأخرى؛ لأنّ اللّغة في تحوّل وتغيّر وتطوّر باستمرار. ففي كلّ يوم، تشيخ كلمات وتموت كلمات وتولد كلمات. في كلّ يوم، تكتسب بعض الألفاظ معانٍ جديدة، أو تُستعمَل في تعبيرات وسياقات مختلفة عن استعمالاتها السابقة، أو تتلوّن بظلال من الدلالات المركزيّة والهامشيّة، وبالاستعمالات الحقيقيّة والمجازيّة، فتسمو في عيون الناطقين باللغة أو تتدنّى قيمتها في نفوسهم. في كلّ يوم تقترض اللغة مفردات جديدة من لغات صديقة أو عدوّة، وتستوعب مفاهيم جديدة لم تكُن مألوفة لأهلها. والأساليب، هي الأخرى، في تغيّر وتطوّر متواصلَين. فأسلوب السجع المرصَّع بالمحسنات البديعيّة والموشّى بالكلمات الحوشيّة النادرة، الذي كان يعتبر في وقت من الأوقات قمّة البلاغة ومنتهاها، لم يعُدْ اليوم ملائماً لروح عصر السرعة الذي يتطلّب الكلمة الرشيقة، والعبارة القصيرة، والنقلة الخفيفة.

ولهذا كلّه، فإنّ شباب اليوم قد لا يتذوّقون ترجمة تمّت صياغتها قبل نصف قرن أو أكثر بلغة تبدّلت وتغيّرت.”
الترجمة تزيد متعة القراءة:
كان في مقدوري أن أجيبه قائلاً:
ـ “إنني استمتع بالقصّة أكثر، وأتمثّلها بصورة أعمق، وأتفاعل معها على وجه أصدق، عندما أقوم بتدريسها أو شرحها أو ترجمتها. و” الشيخ والبحر” قصّة أعجبتني جدّاً، لذا قررتُ لا أن أعيد قراءتها فحسب، بل أكثّف اللذّة وأصعّد المتعة كذلك عن طريق ترجمتها إلى اللغة العربيّة.
الترجمة تُعلّم الكتابة الأدبيّة:
كان في إمكاني أن أجيبه بالقول:
ـ عندما أقرأ الأعمال القصصيّة والروائيّة الخالدة باللغات الأخرى، أتعلّم منها، بصورة واعية أو لاواعية، بعض تقنيات الكتابة السرديّة. وعندما أقوم بترجمتها إلى العربيّة، أتعامل مع النصِّ بعناية بالغة، وأغوص في دقائق تعبيراته، وأتعمّق في أغوار معانيه وشعاب مراميه المرجانيّة؛ فأتدرَّب بذلك على السباحة في استعمال تقنيات سرديَّة قد استثمرها في كتاباتي الإبداعيّة.

المترجم والمُمثِّل:
كلّ تلك الإجابات صحيحة صادقة مخلصة، في نظري. بَيد أَنّي آثرتُ أن أجيب على الوجه التالي:
ـ المُترجِمُ وسيطٌ بين مؤلِّف أجنبيّ وقارئ وطنيّ؛ وسيطٌ بين لغة الأصل المُرسِلة ولغة الترجمة المتلقِّية؛ وسيطٌ بين الثقافة التي كُتِب فيها النصّ والثقافة التي نُقِل إليها النصّ. ويتوقّف نجاح الترجمة على كيفيّة أداء هذا الوسيط لدوره وإتقانه له. ويعتمد تفوّق المُترجِم على تمكّنه من اللغتَين، وإلمامه بالثقافتَين، ومعرفته لموضوع النصّ، وإدراكه لأسلوب المؤلِّف وتقنيّاته.

المُترجِم كالمُمثِّل تماماً. فالمُمثِّل، كذلك، وسيطٌ بين كاتِب النصِّ المسرحيّ أو السينمائيّ وبين الجمهور الذي يشاهده على المسرح أو في السينما. ولهذا، يمكن أن تُمثَّل المسرحية نفسها مرّتين من قِبَل فرقتَين متباينتَين في آن واحد، ويستطيع الجمهور أن يُدرِك الفرق في أداء الممثِّلين لأدوارهم. والممثِّل الناجح هو الذي يستطيع أن يترجِم روح النصّ للجمهور فيؤثِّر فيه، ، ويهِب النصَّ حياة جديدة، ويُضفي عليه ألواناً خلابة، فيمنحه متعة أكبر، فيتجاوب الجمهور معه بشكل أفضل؛ لأنّ معنى النصّ المسرحيّ لا ينبني على ما يقوله الممثّل فقط، وإنّما كذلك على كيف يقول ما يقول. وكيفية القول هذه يُمكن أن تغيّر المعنى تماماً إلى ضدّه. ألم ترَ أن شخصاً يقول لك ” السلام عليكم ” فلا تردّ عليه؟

إنّ مسرحية ” تاجر البندقية” الشهيرة كتبها وليم شكسبير (1564 ـ 1616م) لغرض تصوير جشع المرابي اليهوديّ ” شايلوك” ودناءته وخسّته وحقده على التاجر الشاب اللطيف الوديع البريء ” انطونيو” الذي جاءه ليقترض منه المال، فجعله يوقّع عقداً يسمح لشايلوك باقتطاع رطل من لحم جسد انطونيو إذا لم يسدّد القرض في الموعد المضروب. إنّ هذه المسرحية لم تُمثَّل منذ مدة طويلة ولا يمكن إخراجها اليوم على المسارح الأوربيّة، كما كتبها شكسبير، في ظل قوانين تُعاقِب على ” معاداة الساميّة”. ومع ذلك، فقد قرأتُ، قبل مدّة، أنّ هذه المسرحيّة ذاتها قد أُخرجت ومُثّلت بجميع كلماتها وعباراتها الأصليّة كاملة غير منقوصة على مسرح بريطانيّ، دون أن تتعرض لتهمة ” معاداة السامية “، بل على العكس، نالت رضا الجالية اليهوديّة ومباركتها. لماذا؟ لأنّ مخرج المسرحيّة وممثلوها قدّموها على المسرح بطريقة تجعل من شايلوك ضحيةَ مجتمع يمارس التمييز العنصريّ ضدّه بسبب دينه أو عرقه، وأنّ محامي أنطونيو بدا في هذه المسرحيّة رجلاً لئيماً يحتال على القوانين من أجل السماح لموكِّله أنطونيو بعدم تسديد دَينه المستحقّ، فقال إنّ شايلوك يستطيع أن يقتطع رطلاً من اللحم من أيّ جزء من أجزاء جسد أنطونيو، على شرط أن لا تُراق قطرةُ دم واحدة، لأنّ الدم لم يُذكَر في العَقد. ومما يزيد من مُصاب شايلوك المسكين أن المحكمة، هي الأخرى، تآمرت عليه وقضت بمصادرة أمواله. فهل هنالك ظلم أكثر من هذا الظلم؟!

كيف يؤدّي الممثِّل دوره على المسرح، وكيف يقول النصّ، وبأيّ تنغيم ونبر وطبقة صوت ينطق كلماته وعباراته، وأيّ حركات جسميّة وإشارات يدويّة يقوم بها لمرافقة النصّ ـ كلّ ذلك قد يغيّر من معاني النصّ ومراميه حتّى لو احتفظ الممثّل بحرفيّة النصّ الأصليّ. فالأمانة، في الترجمة وفي التمثيل، لا تقتصر على نقل المعنى أو المضمون فحسب، وإنّما تتضمن كذلك نقل روح النصّ وغاياته ومقاصده. وأمانة المُترجِم ليست مرهونة بنقل المضامين فقط، بل بنقل الأساليب أيضاً. فحاصل المعنى يتأتى ممّا قيل في النصّ ومن الكيفيّة التي قيل فيها.

ولهذا كلّه، نجد أن بعض الأعمال الأدبيّة الكبرى قد تُرجِمت عدّة مرّات إلى اللغة الواحدة. ففي اللغة العربيّة، مثلاً، نجد ثماني وأربعين ترجمة لرباعيات عمر الخيام. ولا تتباين هذه الترجمات من حيث عدد الرباعيّات المُترجَمة، ونقلها من اللغة الفارسيّة مباشرة أو عن طريق لغة أخرى، أو كونها شعرية أو نثرية، فحسب؛ بل تتباين أيضاً من حيث أمانتها وجودتها النوعيّة.

الاستعدادات لترجمة ” الشيخ والبحر”

في أثناء استعدادي للإقدام على ترجمة ” الشيخ والبحر” لم أكتفِ بتمضية ليلة كاملة في مركب شراعيّ صغير يقوده صياد سمك في شواطئ مدينة الصويرة المغربيّة، وإنما اقتنيتُ شريطَين سينمائيَّين أنتجتهما هوليوود لهذه القصة: أحدهما من بطولة سبنسر تريسي والآخر من بطولة أنطوني كوين. وعلى الرغم من أن النجمَين ، تريسي وكوين، من أبرع الممثلين في تاريخ السينما الأمريكيّة، فإن أداءهما مختلف بطبيعة الحال. وهذا هو سرّ إعادة إنتاج القصّة نفسها باللغة الإنجليزيّة ذاتها في أكثر من فيلم واحد. ومن طريف ما يُروى أن أرنست همنغواي قال بعد أن شاهد الفيلم الذي اضطلع ببطولته سبنسر تريسي، والذي رُشِّح بناء عليه لنيل جائرة الأوسكار: ” إن سبنسر تريسي بدا في هذا الفيلم أبعد ما يكون عن صيّاد كوبيّ فقير، وأقرب ما يكون إلى ممثّل أمريكيّ عجوز غني.”

أسلوب همنغواي، السهل المُمتنع:
إنّ جُلّ الذين ترجموا ” الشيخ والبحر” إلى العربيّة، أغراهم قصر النصّ وبساطة اللغة. فـ ” الشيخ والبحر” هي قصة قصيرة وليست رواية؛ بَيد أنها أطول قصّة قصيرة كتبها همنغواي، ولهذا فإنّ بعض مَن يصنّف النصوص السرديّة بحسب طولها يعدّها “قصّة طويلة” أو “رواية قصيرة”. ولكنّني أعدّها قصّة قصيرة بالنظر إلى بنيتها وعدد شخوصها والتقنيات السردية المستخدمة فيها.

ومعروفٌ أنّ كتابة القصّة القصيرة وترجمتها أصعب بكثير من كتابة الرواية وترجمتها، لأنّ القصّة القصيرة ـ كما يكتبها همنغواي ـ مكثّفة ومترابطة عضويّاً، وتستخدم لغة الرمز والإيحاء والتلميح، وكلّ مفردة فيها تحيل على ما قبلها وتمهّد لما بعدها من ألفاظ، وكلّ كلمة تحتلّ موقعاً خاصّاً بها ولا يمكن نقلها منه أو إحلال كلمة مرادفة محلّها؛ وكلّ عبارة بُذرِت بدقّة في موضعها، وأطّرتْها، بحذق ودراية، عبارات بمثابة السماد اللازم لنمو الزهر ذي الأريج الفوّاح. ولهذا كثيراً ما اضطرَ همنغواي إلى إعادة كتابة الفقرة الواحدة عدّة مرات قد تبلغ السبعين مَرّة أو أكثر في بعض أعماله، لتكون في صورتها النهائيّة كما أرادها. فهو كاتب مجوّد يُذكرنا بالشاعر الجاهلي زهير بن أبي سُلمى في حوليّاته التي يمضي في تنقيحها وتعديلها وتجويدها وتجميلها حولاً كاملاً قبل أن يطلقها.

إنّ معظم الذين ترجموا ” الشيخ والبحر” لم يأخذوا في الاعتبار خصائص أسلوب همنغواي ولا تقنياته السرديّة. والمقصود بالأسلوب هو مجموعة الملامح التعبيريّة التي يختارها المؤلِّف من العناصر اللغويّة القابلة للتبادل لنقل مقاصده إلى القارئ والتأثير فيه. ويختلف الأسلوب من كاتب إلى آخر، بحسب نفسيته وثقافته وخلفيته الاجتماعية، حتّى قيل في الفرنسيّة: “إنّ الأسلوب هو الرجل (أو الشخص)” Le style est l’homme. أما التقنيّة فهي وسيلة فنيّة أو صنعة يستخدمها المؤلِّف في تشكيل عمله الأدبيّ بحيث تتضافر مع التقنيّات الأخرى لتحقيق أهدافه وإنتاج التأثير المطلوب في نفس القارئ.

وخلاصة القول إنّ ترجمة الأعمال الأدبيّة تتطلّب من المترجم تخصُّصاً في الجنس الأدبيّ الذي يترجمه، وإلماماً بالمجال الموضوعيّ الذي يتناوله، ومعرفة بثقافة المؤلِّف الأصليّ وحضارة العصر الذي عاش فيه، واستيعاباً لأسلوب الكاتب وتقنيّاته في الكتابة، إضافة إلى تمكّن المترجِم من أسرار اللغة المنقول منها واللغة المنقول إليها.

فإذا نقلَ المترجِم مضامين النصّ الأدبيّ دون أن يحفل بأسلوب الكاتب الأصليّ ولا بتقنيّاته السرديّة، أخلّ بالأمانة العلميّة ولم تكن ترجمته مُمثِّلة للأصل بصدق. فنحن لا نترجِم المضامين فقط وإنّما نترجم الأساليب والتقنيات كذلك. وأزعم أنّ ترجمتي لقصة ” الشيخ والبحر” راعت أسلوب همنغواي وتقنيّاته، كما حافظت على مضامين النصّ ومراميه. هنا يحقّ للقارئ أن يسأل: ما هي الخصائص الرئيسة لأسلوب همنغواي وما هي أهم تقنيّاته؟
خصائص أسلوب همنغواي وتقنيّاته:
يُمكننا إجمالها بما يأتي:

1)السهولة:
أسلوب همنغواي سهل ممتنع. وهو من رواد الأسلوب الواقعيّ المُرسَل الذي حرّر الكتابة الأدبيّة الإنجليزيّة من التراكيب المعقّدة، ومن المفردات الصعبة والنادرة والحوشيّة والأنيقة، وانتقل بالكتابة إلى الألفاظ البسيطة والتعبيرات الواضحة. يقول همنغواي في كتابه ” الوليمة المتنقّلة” :

“ولكن يحدث أحياناً أن أشرع في كتابة قصة ما ولا أتمكّن من التقدّم فيها… أقول لنفسي: لا تقلق. لقد كنتَ تكتب دوماً من قبل وستكتب الآن. كلّ ما عليك أن تفعله هو أن تكتب جملة حقيقيّة واحدة…جملة خبريّة حقيقيّة بسيطة…” (1).

وهذا يُذكّرنا بالشاعر المرحوم نزار قباني الذي قال ذات يوم إنّه لا يختار كلماته من معاجم المجامع اللغويّة وإنّما من كلام الناس البسطاء الحقيقيّين.

ولهذا، فإذا نقل المترجم كلمات همنغواي السهلة وعباراته البسيطة بلغة مثقلة بالمفردات الرنّانة، والكلمات الطنّانة، والتعبيرات المسكوكة القديمة، والتراكيب المعقدّة السقيمة، فإنّه يحيد عن روح النصّ الأصليّ ويبتعد عن مقاصد الكاتِب.

2) الاقتصاد في اللغة:
يعبّر همنغواي عن الفكرة بأقلّ عدد من المفردات. وهذا ما جعل الناقد أنتوني برجس (Anthony Burgess) يقول عن قصة ” الشيخ والبحر” : ” إنه نصّ لا يُضاهى. كلّ كلمة فيه ذات دلالة، ولا يوجد لفظ واحد زائد.”(2)
فإذا راح المُترجِم يضيف عبارات لم يقُلها همنغواي، أخلّ بالاقتصاد في اللغة، حتّى إن كان غرضه جعل النصِّ أكثر وضوحاً وأيسر فهماً. على المترجم أن يتّبع طريقة أخرى لتحقيق الوضوح المنشود.

3) عدم المبالغة Understatement:
يترجم المرحوم منير بعلبكي في معجمه الجيد ” المورد” هذا المصطلح الإنجليزي بـ ( التصريح المكبوت)، أي تصريح مقصود به أن يصوّر الفكرة على نحوٍ أضعف أو أقلّ مما تقتضيه الحقيقة”. ويقابل ذلك (المبالغة) أو (المغالاة )Overstatement وهو تصريح مقصود به أن يصوّر الفكرة على نحوٍ أقوى أو أكثر مما تقتضيه الحقيقة. وكأنّي بهمنغواي قد تعلّم عدم المبالغة في السرد من عمله الصحفيّ الذي يتطلّب أن ينقل المراسلُ الصحفيُّ الحوادثَ بنوع من الحياد وعدم إضفاء أيّة عاطفة على الخبر.

4) الحيادية في السرد:
وهذه الخاصّيّة ترتبط بالخاصّيّة التي سبقتها، أي عدم المبالغة، بل تعمّقها وتوضّحها. وتعني الحياديةُ في السرد نقلَ الأحداث ووصفَ الأشخاص بطريقة شفّافة، مُجرّدة من أية إيدولوجيّة، ومنزَّهة عن أيّة فكرة مسبقة. وكأنَّ همنغواي تعلّم الحياديّة في السرد من عمله الصحفيّ الذي يتطلّب أن ينقل الصحفيُّ الحوادثَ بنوع من الحياد وعدم إضفاء عاطفة على الخبر وعدم نقله من وجهة نظر سياسية معيّنة، كما ذكرنا. وهذا ما يسميه رولان بارت ” الدرجة الصفر للكتابة “، ويعني أن تكون الكتابة محايدة تماماً، مجرَّد أداة، يتخلّى فيها الكاتب إراديّاً عن كلّ لجوء إلى التزيين أو التزويق أو الأناقة في التعبير، والابتعاد عن الالتزام بأيّ موقف اجتماعيّ أو أسطوريّ للغة، بل أكثر من ذلك يُفضَّل عدم تعبير الكتابة عن جنس المتحدّث أو حالته (مفرد أو جمع) ولا عن زمن الحدث (في الماضي أو الحاضر)، بحيث تكون أفضل أنواع الكتابة هي اللاكتابة، وأجمل الأساليب هو غياب الأسلوب. إنّه الحياد التام أو الصمت(3).

5) اللغة الإشارية: الإشارة لا العبارة والتلميح لا التصريح:
أو ما أسماه نقّاد همنغواي بتقنيّة ( جبل الجليد) التي ابتكرها. فهو لا يكشف لك من الحقائق والمشاهد إلا جزءاً يسيراً ويترك الباقي لكَ لتُعمِل فيه خيالك وتأويلك؛ ولكلّ قارئ خياله وتأويله. فجبل الجليد في المحيط لا يظهر منه إلا قمّته الصغيرة، وعلى المُشاهِد أن يتخيّل ضخامة قاعدةِ الجبل المغمورة في الماء. وليست الإشارة التي يستخدمها همنغواي تقتصر فقط على الشكل (أي اللغة الإشاريّة)، وإنّما تمتدّ كذلك إلى المضمون ( أي تفاصيل الحدث). كلمات موحية، ونقاط فقط من وقائع الأحداث، عليك أنت أن توصلها وتلونّها لتكتمل لك اللوحة.
ولهذا فإذا استخدم المترجِم العبارة بدل الإشارة واستعمل التصريح بدل التلميح، أفسد هذه التقنيّة السرديّة التي كان استخدامها يتطلّب جهداً كبيراً من همنغواي.

6) اللامباشَرية:
أي أنّه يبتعد عن الأسلوب التقريريّ، ويتجنّب إعطاء القارئ معلومات بصورة مباشرة. إنّه يسرد الأحداث كما وقعت ليترك للقارئ فرصة استخلاص المعلومات أو النتائج منها. يتحدّث همنغواي في ” الوليمة المتنقلة” عن لقائه الأوّل بالروائيّ الأمريكيّ الشهير سكوت فتزجيرالد في باريس، فيقول:
” كان سكوت يعتقد أن بوسع الروائيّ أن يعثر على ضالته بتوجيه الأسئلة المباشِرة إلى أصدقائه ومعارفه. ولهذا كان التحقيق مباشراً” (4)

7) إشراك القارئ في العمليّة الإبداعيّة:

ويتأتّى له ذلك باستخدام تقنيّات متعدّدة مثل طرح السارد أسئلة دون إعطاء الجواب عليها، بحيث يجد القارئ نفسه مطالباً بالإجابة عنها، أو استعمال ضمير المخاطب أحياناً في السرد ليُشرك القارئ في الحوار ويجعله طرفاً معنياً بالحوادث وما يجري في القصّة، أو ترك فراغات في النص يميل القارئ إلى ملئها واستكمالها طبقاً لنظرية الجشتالت. يقول همنغواي في ” الوليمة المتنقّلة” (لاحظ استعمال ضمير المخاطب في النصّ):

” كانت قصة بسيطة جداً، بعنوان (في غير أوانه)، وحذفتُ نهايتها الحقيقيّة التي تتضمّن قيام الرجل العجوز بشنق نفسه. وقد أجريتُ الحذف بناء على نظريتي الجديدة القائلة بأنّكَ تستطيع أن تحذف أيّ شيء إذا كنتَ تعرف ما تحذف، وهذا الحذف سيقوّي القصّة ويجعل الناس يشعرون بأكثر مما فهموه.”(5)

إنّ خصائص أسلوب همنغواي تلك هي التي جعلت ناقداً أمريكيّاً كان يقيم في باريس، يقول لهمنغواي، لإغاظته:

” عليَّ أن أبلّغكَ أنّني أُلفي أسلوبك متخشِّباً بعض الشيء… إنّه متخشِّب كثيراً، وأَجْرَد كثيراً، وأَعْجَف كثيراً، ومتصلِّب كثيراً.” (6)

ترجمتي والترجمات العربيّة لقصّة “الشيخ والبحر”: دراسة مقارنة
ولمّا كنتُ أزعم أنّني ملمّ بتطوّر القصّة والرواية في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وترجمتُ عدداً من القصص الأمريكيّة مع مقدمات عن أساليب أصحابها في كتاب عنوانه ” مرافئ على الشاطئ الآخر: روائع القصص الأمريكية في القرن العشرين” (7)، وأنّني عارف بدور همنغواي في تطوير الأساليب الكتابيّة في اللغة الإنجليزيّة، فقد درستُه ودرّستُه في الجامعات، وترجمتُ بعض قصصه القصيرة، كما ترجمت سيرته الروائيّة ” الوليمة المتنقِّلة” التي يشرح فيها كيف تدرَّبَ على الكتابة في باريس عندما كان مراسلاً صحفيّاً، ويكشف فيها عن بعض تقنيّاته السرديّة ، وأنّ أسلوبي باللغة العربيّة يقترب في سهولته من أسلوب همنغواي في الإنجليزيّة، فقد دخل في روعي أنّني أستطيع أن أُنتج ترجمة جيدة لقصّة ” الشيخ والبحر”.
إنّ معرفتي بهمنغواي وثقتي بمؤهلاتي في ترجمته جعلتاني أترجم ” الشيخ والبحر”، أوّلاً، دون أن أقرأ أيّاً من الترجمات العربيّة الكثيرة لهذه القصّة، لئلا أتأثَّر بها بصورة أو بأخرى. وعندما انتهيتُ من ترجمتي، ألقيتُ نظرة على اثنتين من أفضل الترجمات العربيّة لمقارنتها بترجمتي:

الأولى، وهي أقدم الترجمات العربيّة وقد صدرت طبعتها الأولى قبل أكثر من نصف قرن، وقام بها مثقَّف عربيّ كبير، له فضل على الثقافة العربيّة تأليفاً وترجمة ونشراً، وتعلّمنا جميعاً منه وتتلمذنا على كتبه ومعاجِمه. لقد ألفيتُ ترجمته في غاية الروعة والبهاء، وتنمّ عن ثقافة واسعة، ودراية كبيرة باللغتَين الإنجليزيّة والعربيّة (8). قصدَ هذا المترجِم الفذّ أن يُرقّد نصّ همنغواي في تُربة الثقافة العربيّة لترسخ جذوره فيها وينمو ويُثمِر فيها. وأُقرُّ بأنّ ترجمته أفضل من ترجمتي بلغتها وأسلوبها العربيّ، ولكنّها أغفلت كثيراً من ملامح أسلوب همنغواي وتقنياته، كما سنرى. وسأشير إليها بالترجمة (أ).

الثانية، آخر الترجمات العربيّة لقصة ” الشيخ والبحر”، وصدرت في أواخر التسعينات من القرن الماضي، وقام بها أستاذ جامعيّ متخصّص، وهي ترجمة جيدة (9). وسأشير إليها بالترجمة (ب).
أمّا ترجمتي فسأشير إليها بالترجمة (ج) لغرض المقارنة.
ومع جودة معظم الترجمات العربيّة للقصة، فإنّني أُفضّل ترجمتي. وسأضرب أمثلة مقارنة، لعلّها تقنع القارئ بأسباب تفضيلي لترجمتي.

اختلافات على مستوى الألفاظ:
أولاً، لنأخذ افتتاحيّة ” الشيخ والبحر” بالإنجليزيّة كما كتبها همنغواي، ونقارن الترجمات الثلاث. ومعروفٌ أنّ النقد الحديث يعطي أهمّيّة كبيرة لـ (افتتاحيّة) القصّة، التي يسميها عادة (الاستهلال). يقول همنغواي:

He was an old man who fished alone in a skiff in the Gulf Stream and he had gone eighty-four days now without taking a fish. In the first forty days a boy had been with him.

لننظر الآن إلى ترجمة هاتين الجملتين في الترجمات الثلاث، والخطوط تحت بعض الكلمات من وضعي، تيسيراً للمقارنة:

الترجمة (أ):

” كان رجلاً عجوزاً يصيد السمك وحده في قارب عريض القعر في “تيار الخليج”، وكان قد سلخ أربعة وثمانين يوماً من غير أن يفوز بسمكة واحدة. وفي الأيام الأربعين الأولى كان يصحبه غلام صغير.”

الترجمة (ب):

“كان الرجل قد بلغ من الكبر عتياً..ولكنه لا يزال رابضاً في زورقه، وحيداً، يطلب الصيد في خليج “جولد ستريم”. وقد عبرت به حتى الساعة، أربعة وثمانون يوماً لم يجد عليه البحر خلالها بشيء من الرزق.
في الأيام الأربعين الأولى، كان له غلام يعينه على أمره.”

ترجمتي (ج):

“كان شيخاً يصيد السمك وحده بمركب شراعي صغير في ” مجرى الخليج” وقد أمضى حتّى الآن أربعة وثمانين يوماً دون أن يحصل على سمكة واحدة. وفي الأيام الأربعين الأولى كان معه صبيٌّ.”

في الظاهر، لا تختلف الترجمات الثلاث من حيث نقلها لمضمون النصّ الإنكليزيّ، ويكمن الاختلاف في اختيار بعض المترادفات مثل: عجوز/شيخ، غلام/صبي. فلماذا تُعاد الترجمة ويُهدَر الوقت والجهد؟

ولكن المتأمّل في الترجمات الثلاث قد يجد فروقاً جوهريّة، وإليك قراءتي المقارنة:
1) عجوز / رجل بلغ من الكبر عتيا/ شيخ:
تبدو هذه الوحدات المعجمية ذات دلالة واحدة، خاصة (عجوز) و(شيخ). ولكنّني لا أحبّذ استعمال كلمة (عجوز) في هذا الموضع للأسباب التالية:

أولاً، كلمة (عجوز) مشتقلة من (العَجْز) أي عدم القدرة على العمل، على حين أنّ الغاية الأساسيّة من قصة همنغواي هي تصوير نضال الإنسان المستمر وكفاحه المتواصل وعمله الدائم من أجل التحكّم في الطبيعة وترقية مستوى حياته. فعلى الرغم من أن صيّاد همنغواي رجل متقدّم في السِّن، فإنّه يتّسم بالاجتهاد في مواصلة العمل، والإيمان بنفسه، والثقة بحكمته وخبرته في مهنته. فهو يتحدّث عن “الحِيَل” التي يمكن أن يستخدمها في صيد الأسماك الكبيرة. وهذه ” الحيل” تعوّض ما فقده من قوّة بسبب التقدُّم في العمر. فهو، إذن، شيخٌ وليس عجوزاً. فكلمة (شيخ)، في اللغة العربية، تدلّ على (الشيخوخة) ولكنّها، في الوقت نفسه، تدلّ على الحكمة والمعرفة، فـ (الشيخ) هو رئيس القبيلة المعروف بحكمته، و(الشيخ) هو رجل الدِّين العارف بحدود الله. وكلمة (شيخ) تُستعمل في وصف أكبر أهل المهنة وأعرفهم بأصولها، فنقول ” فلان شيخ المؤرّخين” أو ” شيخ الروائيّين”؛ وصيّاد همنغواي هو ” شيخ الصيّادين”.

ثانياً، تقول المعاجم : ” عجوز ج عجائز: امرأة هَرِمة أو مُسِنَّة، ويقابلها “شيخ” أي رجل هَرِم، وقد يُقال للرجل عجوز كذلك.” (10). وهذا هو الاستعمال في القرآن الكريم، إذ ورد فيه:
﴿ أَأَلِدُ وأنا عجوزٌ وهذا بَعْلي شيخا﴾
فنحن نستعمل عادة (عجوز) للمرأة و (شيخ) للرجل. والتعبير السياقيّ الشائع ” عجوز شمطاء” ولم نسمع بمقابله * ” عجوز أشمط “. ومعظمنا يحفظ البيتَين المشهورَين التاليين، لأنّ عجز البيت الثاني ذهبَ مَثَلاً:

عجوزٌ ترجَّتْ أن تكونَ فَتيَّةً وقد نحلَ الجنبانِ واحدودبَ الظَّهرُ
تَدسُّ إلى العطارِ ميرةَ أهلها وهل يُصلحُ العطارُ ما أفْسَدَ الدهرُ

ونجد هذا الاستعمال في شعر المتنبي كثيراً، كقوله:

وإذا أشارَ مُحدِّثاً فكأنّهُ قِردُ يُقَهْقِهُ أو عجوزٌ تلطمُ

ونجد في تراث العرب الأدبيّ كثيراً من استعمال كلمة(عجوز) للمؤنَّث ولم نعثر فيه استعمالها للمذكَّر. وعلى كلّ حال، لا تُقال كلمة (عجوز) للرجل في قريتي حيثُ نشأتُ. وقد أخبرني الشيء نفسه، بالنسبة إلى المغرب، المترجِمُ الفذّ الأستاذ مصطفى القصري. وأنا لا استعمل في كلامي ولا في كتاباتي لفظ (عجوز) بهذا المعنى. ولكنّي لا أعترض على استعمالها من لدن كاتب آخر، فالمعاجم تجيز له ذلك على الرغم من أنّني أشك في أنّ معظم معاجمنا تمّ تأليفها بالنقل من معاجم أخرى ولم تعتمد على مدوّنة نصوص فعليّة تمثّل اللغة العربية كما نستعملها.

أما بالنسبة لتعبير ” رجل بلغ من الكِبر عتيا ” الذي ورد في الترجمة (ب)، فإنه يدلّ على المعنى المطلوب، ولكن يُعاب عليه عدم الاقتصاد في اللغة، إذ عبّر بخمس كلمات عمّا يمكن أن نعبِّر عنه بكلمة واحدة هي (شيخ). وكذلك فهو تعبير قرآني قلّما يُستعمَل في اللغة الحديثة العاديّة التي يصرّ همنغواي على استعمالها.
2) في قارب عريض القعر/ في زورقه/ بمركب شراعي صغير:

نلاحظ، قبل كلّ شيء، فرق في حرف الجر، ففي الترجمة (أ) في قارب، وفي (ب) في زورقه، وفي (ج) بِمركب. وهو فرق طفيف إذا علمنا أنّ كتب النحو تقول إنّ حروف الجرّ ينوب بعضُها عن بعض. ومع ذلك، فلا بدّ من الإشارة إلى أنّ حرف الجر (في) يدلّ من حيث الأساس على الظرفيّة المكانيّة أو الزمانيّة، على حين أنّ حرف الجر (بـِ) يدلّ هنا على الظرفيّة المكانيّة وعلى الاستعانة أو الأداة، كما تقول ” أكتب بالقلم” وليس * (أكتب في القلم)، فهو يصيد السمك بقارب.

وتكمن المشكلة الثانية في معنى كلمة(Skiff ) الإنجليزيّة.

يستعمل همنغواي في” الشيخ والبحر” كلمتين فقط لوصف ما يركبه الشيخ في البحر، هماBoat) المتَّفق على مقابلها العربيّ (قارب)، و (Skiff) التي لا يوجد لها مقابل مفرد دقيق في اللغة العربيّة. في هذه الحالة، يتحوّل المترجِم، أو حتّى المعجميّ الذي يصنّف معجماً إنجليزيّاً ـ عربيّاً، إلى مصطلحيّ يتولّى توليد كلمة أو صياغة عبارة تدلّ على مفهوم هذا المصطلح.

كيف يعمل المصطلحيّ لتوليد لفظ يدلّ على مفهوم جديد؟
أولاً، يرسم شجرة أو مخططاً للمنظومة المفهومية التي ينتمي إليها المفهوم الجديد، لكي يقف على جنس الشيء، ويحدّد خاصّته الذاتيّة (أو خصائصه) التي تميزه عن بقية الأنواع المنضوية تحت ذلك الجنس لتكون فصلاً نوعيّاً له. ثم يضع مصطلحاً بسيطاً أو مُركّباً يدلّ عليه. وعندما نعود إلى وصف الشيء المسمّى بالإنجليزية Skiff نجد أنه ” قارب أو مَركَب، ذو قعر عريض، يتسع لمجّذِّف واحد، وله شراع في الوقت نفسه، بحيث يستطيع صاحبه أن يستعمل المجذافَين عند الخروج من المرفأ ثم يستخدم الشراع في عرض البحر”. ولكنّ المعجميّ لا يستطيع أن يضمّن كلّ تلك الخصائص في المقابل الذي يولّده. ولهذا نجد معجم أكسفورد الإنجليزيّ ـ العربيّ، يعطي المقابل التالي: ” زورق صغير خفيف لمُجذّف واحد” (11). فهنا اعتبر المعجميُّ/المصطلحيُّ أنّ الزورق هو الجنس الذي ينتمي إليه الـ Skiff وأنّ المُجذِّف الواحد هو الفصل النوعيّ الذي يميّزه عن بقية الزوارق، مثل زورق شراعيّ وزورق بخاريّ وغيرهما.

أمّا المرحوم منير بعلبكي في معجمه القيّم ” المورد”، فقد أعطى Skiff المقابل: ” مَرْكب شراعيّ صغير”،(12) أي أنّ المَرْكب هو الجنس وأنّه اختار اثنتين من الخصائص لتمييز هذا المركب عن بقيّة المراكب، هما وسيلة الحركة (الشراع) والحجم (الصغر).

في الترجمة (أ) استعمل المترجِم ” قارب ذو قعر عريض” ، مُعتبِراً أنّ صفة القعر هي التي تميّز هذا القارب عن غيره من القوارب. وفي الترجمة (ب) استخدم المترجم المقابل “زورق” بدون خصائص مميزة، معتبراً أن خصائص هذا الزورق بالذات سترِد في بقية القصّة. وفي ترجمتي (ج) استعملتُ “مركب شراعيّ صغير”، معتبراً أنّ الشراع هو الخاصيّة الأهم، لأنّ همنغواي يتحدّث عنه كثيراً، فهذا الشراع مرقَّع وعندما يعود الشيخ بلا سمك، يطويه على السارية ويحملها مثلما يحمل الجنديّ رايةَ الهزيمة. وفي الواقع، فالألفاظ ” قارب” و “زورق” و “مركب” تُستعمل في اللغة العربيّة بوصفها مترادفات. وقد فضّلتُ استعمال مركب هنا مع وصفه بـ “شراعيّ” و “صغير”، لكي تبقى كلمة “قارب” مقابلاً لكلمة Boat التي استعملها همنغواي كثيراً في القصّة.

3) تيار الخليج / خليج غولدستريم / مجرى الخليج:

Gulf Stream اسم ظاهرة جغرافيّة طبيعيّة، مفادها وجود مجرى محدّد داخل المحيط الأطلسيّ يمتدّ من خليج المكسيك جنوباً إلى جزيرة فواندلاند بالقرب من كندا، وفي داخل هذا المجرى يجري تيّار، ويتّحد هذا التيار مع تيار الأطلسيّ الشماليّ. ويمكن مشاهدة هذا المجرى والتيّار الذي في داخله بالعين المجرَّدة، فهو متميّز بمياهه عن بقية مياه المحيط؛ إنّه مجرى أو جدول داخل خليج المكسيك. ويذكّرنا هذا بالنيل الأزرق والنيل الأبيض المختلفين في لون مياههما، بالقرب من الخرطوم في السودان. وفي حالات كهذه، ينبغي أن يعود المترجِم إلى معاجم متخصّصة في الجغرافية. وعند العودة إلى ” المعجم الموحد لمصطلحات الجغرافية ” نجد أنّه واضح في تمييزه بين مجرى وتيّار على الوجه التالي:

تيّار Current
مجرى، جدول Stream (13)

إذن، لماذا فضّل صاحب الترجمة(أ) مصطلح ” تيّار الخليج ” على المصطلح الصحيح “مجرى الخليج “، وهو، في تقديري، أدرى بالفرق بين المصطلحَين؟ أَحْسبُ أنّه كان يدرك أنّ القارئ العاديّ يتقبّل وجود تيّارات في الخليج، ولكن عبارة “مجرى الخليج” تبدو غريبة للقارئ إذا لم تكُن له ثقافة جغرافيّة أو لم يكن قد زار خليج المكسيك ورأى ذلك المجرى المستقلّ داخل مياه الخليج. إضافة إلى أنّ المترجِم لم يبتعد عن الحقيقة، ففي “مجرى الخليج” يوجد تيّار يتجه شمالاً.

أما صاحب الترجمة (ب) فاعتبر أنّ هذا المصطلح هو اسم مكان وله الحقّ في تعريبه بلفظه الأجنبيّ. ولكن وقع خطآن في النصّ: الأول، هو أن نصْف الاسم مترجم ثم أُتبِع بالاسم معرَّباً بأكمله بلفظه الأجنبيّ فقال ” خليج غولد ستريم “، الثاني، هو وقوع خطأ مطبعيّ فظهرت كلمة “غولد” والصحيح هنا ” غولف” وهي الكلمة التي ترجمها بـ ” خليج”.

أما في ترجمتي (ج) فقد فضّلتُ أن أترجم الاسم مستخدماً المصطلح المقابل الصحيح كما يعرفه الجغرافيّون، مهتدياً بمبدأ “لا يصحّ إلا الصحيح”.

4) قد سلخ 84 يوماً/ قد عبرت به 84 يوماً/ قد أمضى 84 يوماً:

في الترجمة (أ) نجد كلمة (سَلَخَ)، وهي كلمة جميلة لا يعثر عليها الكاتِب إلا إذا كان متمرِّساً وقام ببحث واستقصاء عنها، فهي “كلمة مستقصاة” كما يقول الفرنسيون: Un mot recherché. وأنا شخصياً لم تصافح عيناي هذه الكلمة في ما أقرأ بالعربيّة منذ سنوات عديدة. فهي كلمة نادرة أو حوشيّة أو بلاغيّة (طبعاً بلاغيّة لأنّها استعارة من سلْخ جلد الحيوانات المذبوحة). وهمنغواي لا يستعمل الكلمات النادرة ولا الحوشيّة التي تقبع في بطون المعاجم، وإنّما يستعمل الألفاظ المتداولة في لغة الناس البسطاء اليوميّة ، كما ذكرنا.

في الترجمة (ب)، يوحي التعبير (عبرت به 84 يوماً) بأنّ الشيخ خامل والأيام تمرّ به دون أن يبذل جهداً، على حين أنّ همنغواي يريد أن يعطينا الانطباع بأنّ الشيخ يبذل جميع الجهد المطلوب في كلّ يوم، ويستثمر مجمل معارفه وخبراته، لاصطياد سمكة كبيرة.

في ترجمتي (ج)، ( قد أمضى 84 يوماً) هي المقابل الدقيق لتعبير had gone . فالفعل go يعني، في الأصل، ” ذهب، مضى…”. و(أمضى) على وزن (أفعلَ) يجعل من الصيّاد فاعِلاً وليس مفعولاً به.

5) من غير أن يفوز بسمكة واحدة/ لم يجُد عليه البحر خلالها بشيء من الرزق/ دون أن يحصل على سمكة واحدة

في الترجمة (أ)، يمكن أن نعتبر تعبير ( من غير أن يفوز بسمكة واحدة) ترجمة جميلة، بل تحسين للنصّ الأصليّ وتجويد له. فبدلاً من الكلمة العاديّة جداً taking التي استعملها المؤلِّف الأصليّ، استخدم المترجم ( الفوز) التي تقابل عادة winning وتتضمّن استعارة بلاغية تثير في نفس القارئ الشعور بأنّ الحصول على سمكة واحدة كان بمثابة فوز عظيم بالنسبة إلى الصياد الهَرِم الذي لم يحصل على سمكة واحدة خلال 84 يوماً.

هل يحقّ للمُترجِم تحسين النصّ الأصليّ في اللغة المنقول إليها؟ نعم، طبعاً. وسبق أن ذكرنا في موضع آخر أنّ القرّاء الفرنسيّين يُعجبون جداً بالكاتب الأمريكيّ أدغار ألن بو Edgar Allan Poe (1809ـ1849م)، أحد رواد القصّة القصيرة والقصّة البوليسيّة، على حين أنّه لا يحظى بالإعجاب ذاته لدى القراء الأمريكيّين في بلده الأصليّ. ويعود السبب في ذلك إلى أنّ الذي ترجمه إلى الفرنسية هو الشاعر الرومانسي الكبير شارل بودليرCharles Baudelaire ( 1821ـ 1887م) فصاغه بأسلوب سلس رقراق، تخلّص فيه من صعوبة أسلوبه الإنجليزيّ الأصليّ وتعقيداته.

بَيْدَ أن تحسين النصّ في الترجمة (أ) جاء على حساب تقنيّات همنغواي السرديّة. في نظري، إنّ تقنية همنغواي لا ترمي إلى إثارة عاطفة القارئ أو تعاطفه مع الصيّاد من الفقرة الأولى. فهو يصف الشخصيّات والأفعال والأحداث بصورة شفّافة محايدة لا تضبّبها عاطفةُ المؤلِّفِ أو تعاطفُه، كما لو كان يبعث بخبر صحفي إلى جريدته، بحيث لا يأخذ القارئ بالتعاطف مع الصيّاد الشيخ إلا تدريجيّياً، شيئاً فشيئاً، من جراء تتابع الأحداث التي يرويها السارد بصورة موضوعيّة. إنّها تقنيّة (التصريح المكبوح) أو (درجة الصفر في الكتابة) التي ذكرناها سابقاً، لا تقنيّة المبالغة والتهويل وإثارة العواطف بالمفردات. الأحداث والمواقف، لا المفردات والعبارات، هي التي يتفاعل معها القارئ. فهمنغواي يبدأ بإعطاء معلومات بسيطة بشكل محايد موضوعيّ، ظاهريّاً، في البداية، ثم يكثّف الأحداث بصورة تصاعديّة حتّى يصل بها إلى القمة، أو ما يسمى بـ (الذروة) Climax ، ويترك الحكم للقارئ، بل يجعله ينفعل بها ويتفاعل معها، فهو صحفيّ متمرِّس يعرف كيف يميّز بين نقل الخبر بموضوعيّة وبين التعليق على الخبر من وجهة نظر معيّنة.

عندما ذكرتُ ذلك لصديقي الذي وجّه إليّ السؤال في البداية عن أسباب إعادة ترجمة القصّة، لم يقتنع بحجّتي وقال إنّه يلفي عبارة ” مِن غير أن يفوز بسمكة واحدة” ترجمة جميلة، وإنّها تترك أثراً إيجابيّاً جيداً في نفس القارئ العربيّ وتتّفق مع ذائقته. ولهذا فقد اضطررتُ إلى مواصلة شرح تقنيّة ( التصريح المكبوح) في الآداب الغربيّة في مقابل ( التصريح المبالغ به) الذي يميل إليه بعض الأدب العربيّ. وضربتُ له مثلاً آخر من الشعر الفرنسيّ، بقصيدة للشاعر الفرنسيّ جاك برفير Jacques Prévert (1900ـ 1977م) وعنوانها “فطور الصباح”، وهذا نصّها الأصلي:
Dejeuner du Matin
Il a mis le café
Dans la tasse
Il a mis le lait
Dans la tasse de café
Il a mis le sucre
Dans le café au lait
Avec la petite cuillère
Il a tourné
Il a bu le café au lait
Et il a reposé la tasse
Sans me parler

Il a allumé
Une cigarette
Il a fait des ronds
Avec la fumée
Il a mis les cendres
Dans le cendrier
Sans me parler
Sans me regarder

Il s’est levé
Il a mis
Son chapeau sur sa tête
Il a mis
Son manteau de pluie
Parce q’il pleuvait
Et il est parti
Sous la pluie
Sans me regarder

Et mois j’ai pris
Ma tête dans ma main
Et j’ai pleuré
( الفراغات الأربعة بين مقاطع القصيدة من وضعي وإضافتي.)

هذه القصيدة الجميلة البسيطة في كلماتها وصيغ أفعالها وعباراتها، اتّبع بناؤها خطّة محكمة، ترتفع وتيرتُها بصورة هادئة تدريجيّة حتّى تبلغ ذروتها. وتمرّ الخطة في أربع مراحل:

أ‌) الرجل يتناول قهوته بتُؤَدَة، دون أن ينظر إلى الفتاة.
ب‌) الرجل يدخّن سيجارته بتمهُّل، دون أن يكلّم الفتاة ودون أن ينظر إليها.
ت‌) الرجل يتناول معطفه ويغادر المكان تحت المطر، دون أن ينظر إلى الفتاة.
ث‌) الفتاة تضع رأسها بين يديها، وتبكي.

وعندها يُدرِك القارئ أنّ الفتاة المتحدِّثة تُحبّ ذلك الرجل، مع العِلم أنّه لم تَرِد في القصيدة كلمة “أودّه” أو ” أُحبّه” أو “أهواه” أو ” أعبده” أو ما إلى ذلك. نُحسُّ بحبّها في آخر القصيدة عندما تبكي حين يغادر الرجل المكان دون أن ينظر إليها ودون أن يحدّثها. ولم يحصل البكاء إلا في البيت الأخير من القصيدة، بل في الكلمة الأخيرة بالذات من القصيدة. فالبكاء هو الذروة التي مهدّت لها جميعُ الأفعال الهادئة التي ذكرتها الفتاة بصورة موضوعيّة محايدة عاديّة. لم تصرّح الفتاة بحبّها للرجل، وإنما أشارت ولمّحت إليه.

وقد نُشِرت هذه القصيدة في مجموعة جاك برفير الشعريّة الموسومة بـ ” كلمات” Paroles الصادرة عن دار نشر غاليمار في باريس سنة 1949م. ويبدو أنّ الشاعر العربي الكبير المرحوم نزار قباني قد اطّلع على هذه القصيدة في النصف الأوّل من خمسينات القرن العشرين عندما كان دبلوماسيّاً في السفارة السوريّة في باريس، فأعجبته، فترجَم فكرتَها إلى العربيّة مع تعديلات، أو عارضَها، كما يقول الشعراء العرب القدامى، أو وقع له ” تنّاصُّ امتصاصٍ وتحويرٍ” كما يقول بعض النقاد المعاصرين، بمعنى أنّه قرأ القصيدة فتشبّع بها كما تمتصّ قطعة من الإسفنج قدراً كبيراً من الماء عندما تُغمَس فيه، ثم حوّرها وصاغها شعراً بالعربية. وهكذا كتب قباني قصيدةً عنوانها “مع جريدة” ظهرت في مجموعته الشعرية ” قصائد” الصادرة عام 1956. تقول القصيدة:

“أخرجَ من معطفه الجريدَهْ..
وعلبةَ الثقابِ
ودون أن يلاحظَ اضطرابي
ودونما اهتمامِ
تناوَلَ السُكَّرَ من أمامي..
ذوَّبَ في الفنجان قطعتَيْنْ
ذوَّبَني .. ذوَّبَ قطعتيْن
وبعد لحظتَيْنْ
ودون أن يعرفَ الشوقَ الذي اعتراني..
تناولَ المعطفَ من أمامي
وغابَ في الزحامِ
مُخلِّفاً وراءَهُ .. الجريدَهْ
وحيدةً
مثلي أنا.. وحيدَهْ.”

القصيدة جميلة وبسيطة في كلماتها وصيغ أفعالها وتراكيبها كذلك، ولقيت نجاحاً كبيراً عندما أدتها المغنية ماجدة الرومي بلحين رقيق؛ ولكنّها مليئة بكلمات الذوبان في الحبّ، والشوق، والوحدة من بدايتها إلى نهايتها. فالفتاة ـ كما يبدو الأمر في قصيدة قباني ـ لا تعرف الرجل جيّداً وإنّما رأته في مقهى، تُصرّح لنا في العبارة الرابعة من كلامها بأنّه ذوّب في الفنجان قطعتي سكّر فذوّبها حباً وشوقاً وغراماً وهياماً. وهكذا نصل الذروة دون مقدِّمات. إنّه التصريح المبالغ فيه، بعكس قصيدة جاك بريفير التي يمكن وصفها بالتصريح المكبوت. ولو كانت قصيدة قباني ترجمة لقصيدة بريفير، لقُلنا إنّه أفسدها بالمبالغة في الإفصاح عن المشاعر، وبالتصريح بدل شفافيّة الإشارة والتلميح اللذين تزدان بهما القصيدة الأصليّة.

إذن، هل يكمن الفرق في المزاج العربيّ “الحادّ” أو الذائقة العربيّة ذات العاطفة المتأجّجة التي تنفعل بالكلمات قبلَ الأفعال؟! وهل المبالغة والتهويل هما من سمات الشعر العربيّ (أعذبهُ أكذبهُ)؟!

إذا كان الأمر كذلك، فإنّ على الترجمة أن تساعدنا على فهم مزاج الآخر وذائقته بالإضافة إلى مفاهيمه ومضامينه، وأن تنقل إلينا التقنيّات التي تُستخدَم في إنتاج أدب رفيع، لتكون الترجمة، بحقّ وحقيق، جسراً تعبر عليه ثقافة الآخر، ونعرف بواسطتها طريقة تفكيره، ونفسيّته، وردود فعله، وأدبه، وفنّه.

بعد هذا الشرح المفصَّل، اقتنع صديقي بوجهة نظري، وآمل أن يكون القارئ الكريم، هو الآخر، قد قبل هذا الرأي.

في الترجمة (ب) يستعمل المُترجِمُ عبارة ” لم يجد عليه البحر خلالها بشيء من الرزق” مقابلاً لتعبير without taking a fish(وكان من الأفضل أن يُشكِل كلمة ” يَجُدْ” لئلا تُقرأ ” يَجِد”)، فنقول إنّها ترجمة بتصرُّف، ولكنّها أكّدت سلبيّة الصيّاد الشيخ، فالبحر هو الذي يجود عليه أو لا يجود، وهذا ما لا يريده همنغواي ويتنافى مع مقاصده (الأفضل أن نتحدث عن مقاصد النصّ ومراميه وليس مقاصد المؤلِّف، فقد تنحرف مقاصد النصّ عن مقاصد المؤلِّف الأصليّة عندما يخونه التعبير أو لا تطاوعه اللغة مطاوعة كاملة أو عندما يأخذ النصُّ في كتابة نفسه بنفسه).

ومن ناحية أخرى، فإنّ الترجمة (ب) ضحّت باقتصاديّة اللغة فاستخدمت ثماني كلمات في مقابل الكلمات الثلاث أو الأربع الأصليّة. وعلاوة على ذلك فهي استبدلت ( الرزق) وهو لفظ عامٌّ غير محدّد الدلالة بـ ( السمكة) وهي لفظ خاصّ دقيق المعنى، وهكذا قدّمت للقارئ مفهوم ( الرزق) و (التوكّل على الرازق) وهي مفاهيم لا يؤمِن بها همنغواي البتّة.

الصيّاد في الترجمة (ب) غير صيّاد همنغواي. صيّاد همنغواي هو صيّاد جادّ مثابر فاعِل مواظِب على الخروج إلى البحر يوماً بعد آخر، لا يكلّ ولا يملّ، بحثاً عن سمكة كبيرة، ويفعل من أجل اصطيادها كلّ شيء بدقة، ومهارة، وحذق، وخبرة. أمّا صيّاد هذه الترجمة (ب)، فهو صياد عجوز كسول متقاعس سلبي مفعول به؛ فالإيام هي التي تعبر به، والبحر هو الذي يجود عليه أو لا يجود. لقد حوّلت هذه الترجمة الفاعلية إلى المفعولية، وفاتتها روحُ النصّ الأصليّ، وأفسدت تقنيّات مؤلِّفه.

على الترجمة أن تحافظ على صيغ القول حتّى لو كانت النتيجة واحدة، خاصة صيغة الفاعليّة والمفعوليّة، وصيغة المبني للمعلوم والمبني للمجهول، وصيغة الكلام المباشر والكلام غير المباشر، إلخ. ولنضرب مثلاً على ذلك: لنتأمّل الصيغ الثلاث في العبارة التالية:

ـ كُسِرتِ الكأسُ.
ـ انْكسرتِ الكأسُ.
ـ كَسَرتُ الكأسَ.

النتيجة واحدة هي الكأس المكسورة. ولكنّ الطفل لا يقول، أبداً، لأُمّه: ” كسرتُ الكأسَ.” بل يقول عادةً: ” انكسرتِ الكأس.”

ترجمتي (ج) أتت بعبارة ( دون الحصول على سمكة واحدة). فهل نعدّ هذه الترجمة حرفيّة ركيكة أم أمينة دقيقة؟ فكلمة take تعني حرفياً (أخذ)؛ ومعنى (أخذه) الأصلي هو: (أمسك به أو حصل عليه)، كما يخبرنا “المعجم الوسيط” لمجمع اللغة العربية بالقاهرة (14).
6) كان يصحبه غلام صغير/ كان غلام يعينه على أمره/ كان معه صبيٌّ:

هذه العبارات هي من الترجمات (أ) و (ب) و (ج) على التوالي بوصفها مقابلاً للعبارة الأصلية ” A boy had been with him”.

في الترجمة (أ)، تدلّ عبارة (كان يصحبُه غلامٌ صغير) على أنّ الفاعل هو الصبيّ الذي يصحب الصيّادَ الشيخ، وكان من الممكن أن تكون الترجمة ” كان يصطحب غلاماً صغيراً.”، فيكون الصيّادُ الشيخُ هو الفاعل والغلام الصغير هو المفعول به، كما هو ظاهر من الحركة الإعرابيّة على آخره. وكلتا الترجمتين بعيدة عن حرفية النصّ ” معه with him”. ولعلّ صاحب الترجمة (أ) أراد أن يدبّج عبارة انسيابيّة ذات رنين عربي، فأضاف لفظين: الفعل ” يصحب” والصفة ” صغير” إلى الغلام، وهما لم يردا في النصّ الأصليّ. وعلى كلّ حال، فالعبارة ” كان يصحبه غلام صغير” جملة عربية بسيطة جميلة، ولكنّها ترجمة غير دقيقة.

في الترجمة (ب)، توجد في عبارة ” كان له غلام يعينه على أمره ” إضافةٌ تبيّن وظيفة “الغلام”، وهي “إعانة الشيخ على أمره” ولم تكن هذه الوظيفة موجودة في النصّ الأصليّ. وسيتبين لنا عند قراءة القصّة الأصليّة أنّ هذه الإضافة غير دقيقة وناقصة. فهذا “الغلام” كان مع الصيّاد الشيخ لإغراض ثلاثة: 1ـ ليتعلّم المهنة، و2 ـ ليكسب بعض النقود لأهله، و3 ـ لإعانة معلّمه، بطبيعة الحال.

في ترجمتي (ج)، استعملت عبارة ( كان معه صبيٌّ). وتبدو ترجمة حرفيّة للنصّ الأصليّ.

غلام/غلام/ صبيُّ:

وتختلف ترجمتي (ج) عن الترجمتين السابقتين باستعمال كلمة ” صبيّ ” بدلاً من كلمة ” غلام”. ولعلّ القارئ يقول: وما الفرق بين اللفظين؟ فمعظم المعاجم العربيّة تعرّف لفظ ” صبيّ” بمرادفه “غلام” وتعرّف “غلام” بمرادفه “صبيّ”.

بَيْدَ أنّ الألفاظ ليست كيانات قائمة بذاتها مثل جزر معزولة، ولا تُدرَك دلالاتُها من مجرّد سماع أصواتها. إنّ الألفاظ تشكّل أجزاء متداخلة في نسيج لغويّ واجتماعيّ وثقافيّ وتاريخيّ؛ وتكتسب دلالاتها من بنية هذا النسيج برمّته. فدلالة اللفظ وإيحاءاته النفسيّة مُستمدّه من مجموع استعمالاته في مجمل عصور اللغة وفي جميع مجالاتها المعرفيّة.

لنتطرّق لبعض الفروق بين ” غلام ” و ” صبيّ”:

أ ـ “غلام” ليس له مؤنّث من جنسه، على حين أنّ مؤنّث “صبيّ” هو ” صبيّة”.

ب ـ لو نظرنا في “المعجم العربيّ الأساسيّ” إلى مَدخلَي ” غلام” و “صبيّ “، لألفينا أنّ لهما عدّة معانٍ ولا يتّفقان إلا في المعنى الأول:
صبيّ: 1) صغير دون الفتى عُمراً.
غلام: 1) صغير دون الفتى عُمراً.
ولكنّهما مختلفان في المعنى الثاني، على الوجه الآتي:
صبيّ: 2) مَن يتدرّب على مهنة أو حرفة بإشراف مُعلِّم
غلام: 2) خادم.

وهكذا يتبين لنا أن boy في قصّة همنغواي هو (صبيّ) وليس (غلاماً).

لكلمة (غلام) معنى ثالث مُمَات، أي لم يعُد مُستعملاً، ولم يذكره ” المعجم العربيّ الأساسيّ”، لأنه معجم مدرسيّ صغير. فقديماً كان الغلام يعني العَبْد المملوك. ولكلمة “غلام”، في هذا المعنى، مؤنثٌ ليس من جنسها هو “جارِيَة” وجمعها “جوارٍ (الجواري)”. ويذكّرنا هذا المعنى بالعبارة الشهيرة التي تتردد في قصص التراث العربيّ، مثل قصص ” ألف ليلة وليلة”: ” يا غلام! أعطهِ ألفَ دينار.” ووريثُ هذا المعنى المُمات لكلمة (غلام) معنى (خادم) الذي تورده المعاجم. ولو قرأتُ الترجمة (ب) التي ورد فيها ” كان له غلام يعينه على أمره” ولم أكن أعرف القصة وسياقها، لفهمتُ ” كان له خادمٌ يعينه على أمره.”.

ولكلمة (غلام) معنى رابع، يرتبط باللواط أو الشذوذ الجنسيّ وبقضية (الغزل بالغلمان) في الشعر العربيّ، خاصّةً في عصر الانحطاط بعد سقوط بغداد سنة 656هـ/1258م.

إذن لكلمة (غلام) معانٍ ذات أثر نفسيّ سلبيّ، ولهذا يبدو أنّ العرب نقلوا كلمة أخرى من معنى (رضيع) ورفعوها لتكون بديلاً لكلمة (غلام)، تحاشياً للمعاني السلبيّة أو تفادياً لسوء الفهم. والكلمة التي ارتفعت منزلتها، هي (صبيّ) التي كانت تدلّ في العهد الجاهليّ وصدر الإسلام على (الرضيع). فعندما يفخر عمرو بن كلثوم يقول:

إذا بلغَ الفطامَ لنا صبيٌّ تخرُّ لهُ الجبابرُ ساجدينا

وورد في القرآن الكريم:

﴿قالوا كيفَ نكلِّمُ مَن كانَ في المَهدِ صبيّاً﴾ (سورة مريم: 29).

وتحوُّلُ معنى (صبي) من (رضيع) إلى (غلام) يُسمى في علم الدلالة بـ (رُقيّ الدلالة) أي أنّ اللفظ يكتسب بالاستعمال معنىً أرقى من معناه الأصلي. إذ أصبح (صبيّ) يعني (ولدٌ أكبر من الرضيع وأصغر من الفتى). ورقيّ الدلالة هذا هو السبب في حصول الترادف بين (صبي) و(غلام).

ثم اكتسبت كلمة (صبيّ) معنى جديداً هو (الغلام الذي يتعلّم المهنة مع معلِّم). يقول الرئيس ابن سينا ( ت 428هـ/ 1037م) في كتابه ” السِّياسة”:

” ينبغي لمدبِّر الصبيّ إذا رام اختيار صناعة أن يزن أولاً طبع الصبيّ، ويسبر قريحته، ويختبر ذكاءه، فيختار له من الصناعات بحسب ذلك.”(15)

فعلى الرغم من أنّ العربيّة ليست لغة أُمّ للرئيس ابن سينا، فإنّه يستعمل اللفظ الدقيق الصحيح (صبيّ) مرّتين ولا يستعمل مرادفه (غلام).

وخلاصة القول: إنّ مَن يتعلّم مهنة ما مع معلِّم هو (صبيّ) وليس (غلاماً). وهذا ما أثبتُّهُ في ترجمتي (ج) بعكس الترجمتين (أ) و(ب) اللتين استعملتا كلمة (غلام).

الفروق مفهوميّة أكثر منها لفظيّة:

قد يقول القارئ الكريم إنّ هذه الاختلافات مجرّد فروق لفظيّة أو تفضيل مرادف على آخر. وأنا أعتقد أنّها فروق مفهوميّة، لأنّ الألفاظ تشير إلى مفاهيم في الذهن وليس إلى أشياء في الوجود. فعندما نتحدّث عن فوائد “السيّارة”، مثلاً، فنحن لا نقصد سيارة معيّنة ذات صنع محدّد ولون مخصَّص وشكل مقيّد، لها كيان مادّيّ في الشارع، وإنّما نشير بكلمة “السيّارة” إلى صورة ترتسم في الذهن استُخلصت خصائصها الجوهريّة من جميع أنواع السيارات في مختلف أشكالها وأنواعها وألوانها وشركات صنعها.

في إمكاني أن أسوق عشرات الأمثلة على اختلافات في المفاهيم بين ترجمتي (ج) والترجمتين (أ) و(ب). ولكنني، لئلا أُثقِل على القارئ سأكتفي بمثال واحد.

ورد في القصة أن الصيّاد الشيخ شاهدَ طائراً بحرياً اسمه a man- of- war bird طويل الجناحَين، يحلّق على بقعة في البحر، ثم يُسِفُّ ليصطاد السمكات الطائرة، فيُدرك الشيخُ آنئذٍ وجود سمكة كبيرة أو أكثر في تلك البقعة ولهذا تهرب الأسماك الطائرة منها وتنطّ في الهواء.

تسمّي الترجمة (أ) و الترجمة (ب) هذا الطائر (نِسراً)، على حين أن هذا الطائر لا علاقة له، على الإطلاق، بفصيلة النسريات ولا بفصيلة الصقريات. يسمى هذا الطائر بالإنجليزية كذلك The frigate-bird وبالعربية ” الفرقاط” أو الطائر البارجة” وهو من فصيلة ” الفرقاطيات” Fregatidae . وكثيراً ما يُرى هذا الطائر صافاً جناحيه أو منزلقاً على تيارات الهواء فوق الشواطئ أو البِحار، وله جناحان طويلان يبسطهما عند الصفّ. ويستطيع أن يصيد وهو طائر في الجو، إمّا منقضّاً ليلتقط سمكة من البحر، وإما بالقرصنة ومهاجمة الطيور البحرية الأخرى وإرغامها على ترك فرائسها أو إخراجها من حلوقها ليتغذى بها هو. يعيش هذا الطائر على امتداد شواطئ أمريكا الوسطى، وجنوب البرازيل، وشرقي أفريقيا، وجنوب شرقي آسيا، وشمال أستراليا، وجزائر المحيطين الهادي والأطلنطي، وكذلك المحيط الهندي (16) .

وحتّى إذا أراد المترجم أن يطلق اسم ( نسر ) أو (طير كاسر) على هذا الطائر لتيسير الفهم للقارئ العربي، فإنّ ذلك خطأ مفهومي، لأنّ ” الطير الكاسر” هو جنس عامّ لأنواع متعدّدة من الطيور، تختلف في خصائصها الذاتيّة وسلوكها وأماكن عملها، ولأنّ النسر لا يصيد مطلقاً بل يتغذى على الجيف. ولهذا ينبغي أوّلاً أن نطّلع على تصنيف الطيور الجارحة كما يحدّده علماء الأحياء ونختار اسم النوع المناسب. وتدلّنا الدراسة المتأنيّة لشجرة أهمّ الطيور الكواسر على ما يأتي:
الطيور الكواسر
النسر الصقر
(يتغذى على الجيف، لا يهاجم الحيوان الحيّ) (يُستخدَم في الصيد، يهاجم الحيوان الحيّ)
البازي الشاهين
(جناحاه قصيران، ويميل ذنبه ورجلاه إلى الطول) (جناحاه طويلان)
العُقاب الباشق البيدق الشاهين البحري

ولمّا كان الطائر البحريّ في قصة “الشيخ والبحر” ذا جناحَين طويلَين ويهاجم بضراوة السمكات الطائرة محاولاً اصطيادها وأكلها، فإنّه لا يمكن أن يكون نسراً، لأنّ النسر ليس طائراً بحرياً ولا يَصطاد، بل يتغذّى على الجيف. وحتّى إذا استعملت إحدى الترجمات مصطلح (نسر بحريّ)، فإنّها جانبت الصحّة في التسمية مرّتَين، لأنّ ذلك الطائر ليس نسراً، ولأنّه لا يوجد نسر بحريّ على الإطلاق، فالنسور ليست من الطيور البحريّة، كما ذكرنا. وهواة الصيد الكبار يعرفون أن الطيور الكواسر التي تصيد هي من الصقريات. ويحدثنا الأمير أسامة بن منقذ ( 488ـ 584هـ/1095 ـ 1188م) في سيرته الذاتية ” كتاب الاعتبار” أنهم كانوا يصيدون في البحر بالشياهين البحرية (17).

الفروق في بنية الجملة:
الأمثلة التي ضربناها سابقاً تتناول الجانب الدلاليّ والمفهوميّ في الترجمات الثلاث. ولكنّ الفروق بين هذه الترجمات لا تقتصر على ذلك الجانب فقط بل تمسّ كذلك الجانب التركيبيّ للجملة ونظمها. لنأخذ عبارتَين إنجليزيّتين من القصّة تشتملان على عدد من الصفات، وننظر كيف رُتِّبت هذه الصفات بالترجمات العربيّة الثلاث:

(a) “ … a bird with his long black wings…
(b) “ … the coast was only a long green line…”
(لاحظ أن النصّ الإنجليزي وضع صفة الطول أولاً، ثم صفة اللون ثانياً.)

في الترجمة (أ) نجد العبارتين على الوجه التالي:

(a) طائر ” ذي جناحين طويلين سوداوين ..” (والصحيح ” أسودان”، لأن الجناح مذكَّر).
(b) لم يبقَ من الشاطئ ” غير خط طويل أخضر..”

(أي أن المُترجِم العربيّ اتّبع ترتيب الصفات كما هي بالإنكليزيّة: صفة الطول أوّلاً، ثم صفة اللون ثانياً).

وفي الترجمة (ب) نجد العبارتين على الوجه التالي:

(a) طائر “… جناحيه الأسودين..” (أسقطت هذه الترجمة صفة الطول)
(b) … الشاطئ ” شريط طويل مخضوضر..”

( أي أنّ المترجم الكريم اتّبع كذلك نفس ترتيب الصفات بالإنكليزيّة: صفة الطول أوّلاً، ثم صفة اللون ثانياً).

في ترجمتي (ج) وردت العبارتان على الوجه الآتي:

(a) طائر ” بجناحيه الأسودين الطويلين..”
(b) الشاطئ ” خط أخضر طويل ..”

( هنا نجد صفة اللون أوّلاً ثم صفة الطول ثانياً. أي أن ترتيب الصفات في ترجمتي جاء بعكس ترتيبها في النصّ الإنكليزي الأصليّ، وطبعاً بعكس ترتيبها في الترجمتَين الأُخرَيَين اللتين اتبعتا نفس الترتيب الإنكليزيّ).

لماذا؟ وما هو الفرق ؟

تتعلّق هذه القضية بترتيب الصفات التي تصِف الاسم، وهو ترتيب قد يختلف من لغة إلى أخرى. أوّل من درس ظاهرة ترتيب الصفات في العبارة التي تُنطَق بصورة طبيعية اعتياديّة باللغة الإنكليزيّة هو أستاذنا الدكتور آرتشبولد هيل (A.A.Hill) الذي قسّم الصفات الإنكليزيّة إلى ستة أصناف وخصص رقماً لكلّ صنف منها طبقاً لقُربه أو بُعده من الاسم، وعبارته النموذجيّة هي:

All the ten fine old stone houses.
الاسم 1 2 3 4 5 6
ووضع القاعدة التالية :
” تنتمي الكلمات إلى الصنف الترتيبيّ نفسه إذا كنا نستطيع تعويض إحداها بالأخرى من غير أن يؤثّر ذلك في هيكل العبارة وصحّتها. وتنتمي الكلمات إلى صنفَين ترتيبيَّين مختلفَين إذا كانتا تردان في تعاقب ثابت.”(18)

ثمة ترتيب للصفات في اللغة العربيّة كذلك، ولكن لا توجد دراسات لسانيّة حول الموضوع ـ على ما أعلم ـ ما عدا دراسة يتيمة للباحثة المغربيّة نادية عمري بعنوان ” ترتيب الصفات في اللغة العربية” (19)

وبعد أن قامت هذه الباحثة باستقصاءٍ وبحثٍ في مختلف الكتابات العربيّة، تخلُص إلى أنّ “الصفات العربيّة المنسوبة تتسلسل في ترتيب معكوس لما توجد عليه الصفات الإنجليزيّة”(20)
مثل:
ـ الكتب الصفراء القديمة. (لون < نعت)
ـ السيارة الإيطالية السوداء. (جنسية < لون)
ـ المزهرية الصينية الصغيرة الجميلة. ( جنسية < حجم < نعت)
ـ الطاولة المستديرة الصغيرة. (شكل < حجم)

وتضع الباحثة القاعدة التالية لترتيب الصفات في اللغة العربيّة:

(الاسم ، 1 صفة جنسيّة< 2 صفة لون< 3 صفة شكل< 4 صفة حجم< 5 صفة نعت)
مثل:
المزهريّة المصريّة الزرقاء المدوّرة الصغيرة الجميلة.
1 2 3 4 5

وخلاصة القول إنّ الترجمتين (أ) و (ب) اتّبعتا ترتيب الصفات كما هو في النصّ الإنكليزي لقصة ” الشيخ والبحر” في جميع المواضع التي ترد فيها عبارات ذات صفات متعدّدة. وهذا الترتيب مخالف لترتيب الصفات في العبارة العربيّة عندما ننطقها بتنغيمها الاعتياديّ. وإذا أردنا أن نغيّر في ترتيب الصفات لأسباب بلاغيّة، فإننا نضطر حينذاك إلى تغيير التنغيم ومواضع النبر على الكلمات.

فروق صرفية:
يقسّم بعض اللسانيّين ألفاظ اللغة إلى صنفَين: ألفاظ معجميّة وألفاظ بنيويّة. وتنتمي ألفاظ الصنف الأول إلى دائرة مفتوحة بحيث ينمو عددها باستمرار وسهولة في مدّة زمنيّة قصيرة، على حين تنتمي ألفاظ الصنف الثاني إلى دائرة مغلقة بحيث تمتاز بقلة عددها كما يصعب زيادتها أو تغييرها. ومن أمثلة الصنف الأول أسماء الموجودات والأشياء والأدوات مثل: كتاب، كرسي، سيارة، صاروخ، إلخ. ومن أمثلة الصنف الثاني الضمائر المنفصلة والمتّصلة (أنا، أنت، هو، هي، إلخ.)، وحروف الجر (في، من، على، إلى، إلخ.)

وفي عملية الاقتراض اللغوي، تستعير اللغات، عادةً، الألفاظ التي تنقصها من لغة أخرى. وهذه الألفاظ المقترَضة هي من الصنف الأوّل كألفاظ المفاهيم المستحدَثة والمخترعات الجديدة، وقلّما تستعير لغةٌ من لغةٍ أخرى الأدواتِ الصرفيةَ والبنيوية. ومن الأمثلة النادرة على استعارة الأدوات الصرفية استعارة بعض لغات الشعوب الإسلاميّة أداة التثنية من اللغة العربيّة. فحركة (طالبان) في أفغانستان اكتسبت اسمها من لفظ (طالب) العلوم الدينيّة الذي اقترضته لغة البشتو من العربيّة، واقترضت في الوقت نفسه علامة التثنية في حالة الرفع (ـان) واعتبرتها علامة الجمع. لأنّ لغة البشتو من اللغات الهندوأوربيّة التي لا تعرف المثنّى، بل تقتصر على المفرد والجمع، وتعدّ كل ما زاد على واحد جمعاً. وهكذا عندما أراد الناطقون بالبشتو أن يقولوا : طلاب، قالوا(طالبان) مقترضين علامة المثنى في حالة الرفع ليدل على الجمع، لأنّ لغتهم ليست إعرابية ولا تفرّق بين اللفظ في حالة الرفع أو النصب أو الجر. وحصل الأمر ذاته في اللغة التركيّة عندما أسست الدولة العثمانيّة في أواخر أيامها مجلس نواب شبه معيّن وأسمته(مجلس المبعوثان)، ومعناه مجلس المبعوثين من الأقاليم إلى العاصمة الأستانة.

وإذا كنا نترجم من اللغة الإنجليزيّة أو الإسبانيّة اسم العملة في أمريكا أو إسبانيا، مثلاً، فإنّنا نقترض اللفظ نفسه، ولكننا لا نقترض علامة الجمع لأنها موجودة في اللغة العربية. فنترجم
(dollar) بـ دولار
(two dollars) بـ دولاران/ دولارين
(three dollars) بـ ثلاثة دولارات

وإذا عدنا إلى قصة (الشيخ والبحر) نجد فيها أنّ الشيخ، بعد أن ربط السمكة الضخمة التي اصطادها بقاربه وأبحر عائداً إلى منزله، فوجئ بعد ساعتين برؤية قرشين في البحر قادمان نحوه، وهما من نوع الغلانو، الذي يقتات على الأسماك، فصرخ بألم:
- “ Galanos”
وفي الترجمتين العربيتين (أ) و (ب) نجد الترجمة التالية:
ـ ” غلانوس”
وهذا يعني أنهما لم يقترضا اسم نوع القرش فحسب، بل اقترضا علامة الجمع كذلك (s )، كما لو ترجمتا (three dollars) بـ (ثلاثة دولارس). كان من المفروض أن تكون الترجمة : (غلانوان). والسياق يساعد في تبيان المعنى، لأن الشيخ رأى القرش الأوّل ثم رأى زعنفة القرش الثاني وكلاهما من نوع غلانو، فصرخ (غلانوان).
الإضافات المسموح بها للمترجم:

من المتعارف عليه بين المترجِمين أنّ للمترجِم الحقّ في إضافة كلمة هنا وكلمة هناك، ليجعل النصّ المُترجَم مقروءاً ومفهوماً ومنسجماً مع أساليب اللغة المُترجَم إليها. بيدَ أنّ هنالك شَرطَين لذلك:

أولاً، أن لا تؤدّي إضافة المُترجِم إلى تغيير المضمون الأصليّ أو إضافة معلومة لم تكن موجودة في الأصل.
ثانياً، أن لا تغيّر إضافة المترجِم من ملامح أسلوب المؤلِّف الأصليّ أو تفسد تقنيّاته.

لنأخذ مثلَين من الترجمات الثلاث التي نقوم بمقارنتها:

(1)المثل الأوّل:
ينجذب خيط الصيّاد الشيخ جذبة واحدة، ثم لا شيء بعد ذلك. فيقدّر الصيّاد الشيخ أنّ سمكة أرادت أن تأكل الطُّعم المُثبّت في رأس الشصّ، ولكنّها غيّرت رأيها وابتعدت عنه، ويقول:
“Maybe he has been hooked before and he remembers something of it.”

الترجمة (أ) :
“لعلها ازدردت شصّاً من قبل فهي لا تزال تذكر شيئاً من الألم الذي أَورثها إيّاه.”

الترجمة (ب):
” لعلها كابدت خطافاً كهذا من قبل، فأخذت عِبرة من الماضي ودرساً.”

ترجمتي (ج):
” لعلّها عُلِقتْ بشصّ من قبل وتتذكّر شيئاً من ذلك.”

لاحظ أن الترجمة (أ) ـ وقد أبدعها أديب ومترجم عملاق ـ متينة السبك، رفيعة اللغة؛ وفيها إضافتان إلى النصّ الأصليّ:
الإضافة الأولى: ” فهي لا تزال”. وهي إضافة مقبولة، في نظري، تحسّن من بلاغة النصّ وتوضّح معناه. وهي من نوع الإضافات التي ينبغي أن يسعى إلى إتقانها المُترجِم الجيّد.
الإضافة الثانية: ” الألم الذي أورثها إياه.”. وهي عبارة تتضمّن استعارة جميلة وتفسّر ما كان المؤلِّف الأصليّ يقصده بقوله ” شيئاً من ذلك.”. ولكنّ همنغواي يريد أن يقوم القارئ، لا المترجم، بالتفسير، من أجل زيادة متعة القراءة ومشاركة القارئ في الإبداع. وهذه الإضافة تجعل النصّ المُترجَم ينتمي إلى الأساليب السرديّة السابقة لهمنغواي التي تفضّل التصريح على التلميح، والتي سعى همنغواي إلى تغييرها.

وتضمّنت الترجمة (ب) إضافتين، كذلك، على النصّ الأصليّ:
الإضافة الأولى: كلمة ” كهذا” وهي إضافة لا ضرورة لها، لأنّ تعبير ” من قَبل” يغني عنها.
الإضافة الثانية: عبارة ” فأخذت عبرة من الماضي ودرساً”. وهي، في نظري، تأويل وليست شرحاً أو تفسيراً. ويطمح أيّ كاتب روائيّ معاصر أن يتولّى القارئُ، لا المُترجِم، التأويلَ.

أما ترجمتي (ج) فلم ترِد فيها أيّة إضافة كانت، بل حافظت حتّى على صيغ الأفعال في النصّ الأصليّ، مثل صيغة المبنيّ للمجهول “عُلِقت بشص”. فتبدو كأنّها ترجمة حرفيّة. وعلاوة على ذلك، فهي لا تتحلّى ببلاغة الترجمة (أ). وهدفي هو المحافظة على أسلوب همنغواي السهل الممتنع، وصيانة تقنيّاته السرديّة، والاقتصاد في اللغة. وهذه بعض المزايا التي أهّلت هذا النصّ القصير لهمنغواي للفوز بجائزة نوبل.

(2)المثل الثاني:
ورد في النصّ الإنكليزيّ للقصّة ما يأتي:

“ This far out, he must be huge in this month, he thought. Eat them, fish. Eat them. Please eat them.”

الترجمة (أ):
” وفكّر الشيخ: ما دمتُ في مثل هذا الشهر، وعلى هذا البُعد عن الساحل، فليس من ريبٍ في أنها سمكة ضخمة جداً. ثم أنشأً يخاطب السمكة قائلاً:
ـ : كُلي هذه الأطعام، أيتها السمكة، كليها! أرجوك أن تأكليها.”

الترجمة (ب):
” وجعل يتكلم: عند هذا العمق، لا بد أن يكون حلق السمكة ضخماً. كُلي، أيتها السمكة. كُلي الطعام كله.”

ترجمتي (ج):
” وفكّر: على هذا البُعد، وفي هذا الشهر، لا بُدّ أن تكون السمكة ضخمة جداً. كُلي الطُّعم، أيّتها السمكة. أرجوكِ أن تأكليه.”

لاحظ أنّ في الترجمة (أ) ثلاث زيادات على النصّ الأصليّ هي: ” الشيخ” و ” ما دُمتُ” و ” ثم أنشاً يخاطب السمكة قائلاً:” . وكلّها إضافات توضيحيّة تقرّب النصّ من فهْم القارئ. وإذا كنتُ أستسيغ إضافة ” الشيخ” وأُعجَب بإضافة ” ما دمتُ”، فإنّني أجد في إضافة ” ثم أنشأ يخاطب السمكة قائلاً” خروجاً عن النصّ، وإفساداً لتقنية من تقنيّات همنغواي يمكن أن نصفها بـ ” الانتقال من التفكير إلى التعبير” دون مقدِّمات ومن غير أن يضيف فعل القول. وقد استخدمها همنغواي بذكاء ودراية. فبينما كان الصيّاد يفكّر بضخامة السمكة التي لم يرَها بعد، جعلته هذه الفكرة، يتعجّل في رجاء السمكة أن تأكل الطُّعم، يتلهّف لهذه النتيجة. فلا وقت لدى همنغواي وهو منكبّ على كتابة النصّ، متفاعل معه، منفعل به، أن يضيف: “ثم أنشأ الصياد يخاطب السمكة قائلاً”، بل دخل في الخطاب مباشرةً. التعبير يعقب التفكير. وبعد هذا وذاك، فإنّ هذه الإضافة لا مُبرر لها أبداً، لأنّ النصّ واضح من عبارة: ” أيتها السمكة”، وليس هنالك سوى الصياد والسمكة.

أذكر أنّني كنتُ، ذات يوم، أكتبُ قصّةً عن أستاذ جامعيّ، ذي تربية متديّنة، التقى بفتاة جميلة جداً بادرت إلى مساعدته في حمل كُتبه، وأُعجِب بها كثيراً، وكان في حاجة لمبادلتها المودّة والصداقة ولكنه شكَّ في كونها مومِساً، فانتابه صراع نفسيّ. وفجأة، وأنا أكتب القصّة، وجدتني أخاطب والدي: ” لماذا فعلتَ بي ذلك، يا أبي؟ أَلَمْ تعلم أنّ الدنيا مليئة بالكذّابين والمخمورين والفاسقين والذئاب؟ لماذا فعلتَ بي ذلك، يا أبي، وأنتَ تعلم أنّي أُحبّكَ وأنتَ تحبُّني، ولكنّي أحبّكَ أكثر ممّا تحبّني، لأنّ لكَ أولاداً آخرين وأنا لا أبَ لي سواك.”(21)
فلو تبرّع مترجم بإضافة جملة (ثم أنشأ يخاطب أباه قائلاً التوضيحية التي تقطع صلة التفكير بالتعبير في قصتي هذه، لما قبلتُ ترجمته.

إنّ إضافة عبارة ( ثم أنشأ يخاطب السمكة قائلاً) في هذه الترجمة تُذكّرني بملحمة “جلجامش” السومريّة. فالتقاليد الكتابيّة التي كانت سائدة في الأدب السومريّ، كانت تقدِّم لكلّ قول من أقوال جلجامش (أو أيّة شخصيّة أُخرى في الملحمة) بعبارة: ” وفتح جلجامش فاه ثم قال:” التي تبدو لنا اليوم تحصيل حاصل، فكيف يتكلّم الإنسان من غير أن يفتح فمه؟

في الترجمة (ب)، نجد زيادة غريبة هي: ” لا بدّ أن يكون حلق السمكة ضخماً”. فالنصّ الأصليّ لا يذكر ” حلق السمكة” مطلقاً. ولا يمكن أن تُعدّ هذه الزيادةُ إضافةً بلاغيّة ولا توضيحيّة. إذن ما الذي حصل؟ لا يمكن تعليل ذلك إلا بأحد أمرين:

الأوّل، احتمال وقوع خطأ مطبعي في النصّ الإنكليزيّ، فظهرت كلمة (mouth فم) بدلاً من (month شهر). وهذا يدعو المترجمين إلى اقتناء طبعة جيّدة للنصّ الأصليّ من ناشر معروف، إذا كان للنصّ عدّة طبعات.

الثاني، احتمال إصابة المُترجِم بالإرهاق لدرجة أنّه قرأ (mouth) بدلاً من (month). ولتفادي وقوع مثل هذه الأخطاء، ينبغي مراجعة الترجمة ومقابلتها مع النصّ الأصليّ من قبل المترجِم نفسه أو من لدن مُراجِع خارجيّ.

في ترجمتي (ج)، لا توجد أية إضافات. هنالك تقديم عبارة ” في هذا الشهر” الذي اقتضاه وضوح النصّ، وهناك استعمال المفرد (طُعْم) بدلاً من الجمع الذي ورد في النصّ الأصلي (طعوم) أو (أطعام)، لأنّ الجمع نادر الاستعمال في اللغة العربيّة.

تغيير الصيغ الأصليّة في الترجمة:

هل يستطيع المترجِم أن يغيّر الصيغ الواردة في النصّ الأصليّ، مثل المفرد والجمع، الفاعليّة والمفعوليّة، المبنيّ للمجهول والمبنيّ للمعلوم، المذكّر والمؤنّث، المخاطَب والمتكلّم، إلخ.؟

طبعاً، يستطيع المترجِم أن يغيّر بعض الصيغ الأصليّة، لأنّ لكلّ لغة خصائصها الصرفيّة والأسلوبيّة. فقد يكون اللفظ مُذكَّراً في لغة ما ومقابله مؤنّثاً في لغة أخرى والعكس بالعكس، مثل لفظ ” السمكة ” المؤنّث في العربيّة، على حين يُشار إلى مقابله في الإنجليزية (Fish) بضمير المُذكَّر (He)، ومثل لفظ ” القمر” المُذكَّر في العربيّة ومقابله La Lune مؤنّث في الفرنسيّة،. وقد تُفضِّل أساليبُ لغةٍ ما صيغةَ المبنيّ للمعلوم على حين تفضّل أساليبُ لغةٍ أُخرى المبنيَّ للمجهول.

ولكن ينبغي أن لا يغيّر المترجِم صيغةً من الصيغ كان المؤلِّف الأصليّ قد استعملها عن قصد، أو استخدمها بمثابة تقنيّة سرديّة. ومن الأمثلة على ذلك تقنية همنغواي في استعمال ضمير المخاطب لإشراك القارئ في الموضوع وإثارة اهتمامه، كما يستعمل بعضُ الكُتّاب في العربيّة ضمير المتكلمين (ـ نا)، لإشراك القارئ ، فيقول: لننظر الآن في المثال التالي من قصة “الشيخ والبحر” :

“ He did not say that because he knew that if you said a good thing it might not happen.”
الترجمة (أ):
” ولم يقل ذلك، لأنه كان يعلم أنّ المرء إذا عبّر عن فرحه باقتراب النصر فقد لا يرى وجه النصر أبداً.”

الترجمة (ب):
” ولكنه لم يقُله. لأنّه كان ممن يعتقدون أنّ الإنسان إذا ثرثر عن خير مُقبل عليه، فقد لا يُقبل الخير أبداً.”

ترجمتي (ج):
” لم يقُل ذلك، لأنّه كان يعلم أنّكَ إذا نطقتَ بشيءٍ حَسَنٍ تتمناه، فإنّه قد لا يحصل.”

نقلت الترجمتان (أ) و (ب) معنى النصّ الأصلي بشيء من التصرُّف وبشيء من التفسير والتوضيح؛ ولكنّهما لم تحافظا على ضمير المخاطب أو الشخص الثاني الذي استعمله المؤلّف الأصليّ في ” أنّكَ…” وغيّراه إلى الشخص الثالث ” أن المرء … ” أو ” أن الإنسان…”، لأنّ أسلوب استعمال ضمير المخاطب ليس معتاداً في السرد العربيّ. والذي أثار حيرتي أنّ كلتا الترجمتَين استعملت كلمة ” أبداً” التي ليست موجودة في النصّ الأصليّ، والتي تتناقض مع معنى “قد” في عبارة ” قد لا يرى وجه النصر أبداً ” أو ” قد لا يُقبل الخير أبداً”. فنحن نعلم أنّ “قد” تفيد مع الفعل الماضي التحقيق، ومع المضارع التقليل والاحتمال، في حين أن ” أبداً” هي ظرف زمان تفيد الاستمرار المؤكَّد، مثل ” لن أفعله أبداً” أي لن أفعله مدى الدهر. أما عبارة ” قد لا يحصل ” فتعني: قليلاً ما يحصل، أو: قد يحصل أو لا يحصل. فكيف نضع “أبداً” بعدها التي تعني الاستمرار المؤكَّد في عدم الحصول؟!

أما ترجمتي (ج)، فتكاد تكون حرفيّة، ولم تُضف إلا كلمة واحدة هي ” تتمناه” لتوضيح المعنى.

خلاصة

أستطيع الاستمرار في ضرب الأمثلة المقارنة التي تبيّن كيف أن الترجمات العربية السابقة لقصة ” الشيخ والبحر” لهمنغواي لم تنقل مضامين القصة بدقة، وكيف أنها أغفلت أسلوب همنغواي وتقنياته السردية؛ وأنني أقدمتُ على إعادة ترجمة القصة لا لزيادة متعتي في قراءتها والاستفادة من تقنياتها فحسب، وإنّما لأنقلها إلى القارئ العربي بطريقتي الخاصة التي استثمرُ فيها جميع معرفتي بهمنغواي، ولغته، وأسلوبه، وتقنياته، من أجل أن تصبح الترجمة جسراً لا لعبور المضامين فحسب وإنّما لعبور الأساليب والتقنيات والنفسيات كذلك.

الهوامش:

(1) أرنست همنجواي، وليمة متنقلة، ترجمة: علي القاسمي ( القاهرة: دار ميريت، 2006) الطبعة الثالثة، ص 40.(2) نُقل قوله على الغلاف الخلفي من طبعةErnest Hemingway. The Old Man and the Sea (London: Arrow Books Limited,1993)(3) كتاب Roland Barthes ; Le Degré Zéro de l’écriture (Paris: Seuil, 1953)            ترجمة محمد برادة: الدرجة الصفر للكتابة (الرباط: الشركة المغربية للناشرين المتحدين، ط3، 1985)(4) وليمة متنقلة، ص 165.(5) وليمة متنقلة، ص 97.(6) وليمة متنقلة، ص 116(7) علي القاسمي، مرافئ على الشاطئ الآخر: روائع القصص الأمريكية المعاصرة (بيروت: إفريقيا الشرق، 2003)(8) أرنست همنغواي، الشيخ والبحر، ترجمة منير بعلبكي (بيروت: دار العلم للملايين) استخدمنا طبعة تشرين الثاني/نوفمبر 1992.(9) أرنست همنجواي، الشيخ والبحر، ترجمة د. زياد زكريا (بيروت: دار الشرق العربي، ب ت)  (10) علي القاسمي (المُنسِّق) وآخرون، المعجم العربي الأساسي (تونس/باريس: الألكسو/لاروس، 1989).(11)  دونياك وآخرون، معجم أكسفورد، إنجليزي ـ عربي، (لندن، أكسفورد، 1969).(12) منير بعلبكي ، معجم المورد، إنجليزي ـ عربي ( بيروت: دار العلم للملايين، 1969)(13) مكتب تنسيق التعريب، المعجم الموحد لمصطلحات الجغرافية (الرباط: مكتب تنسيق التعريب، 1994).(14) مجمع اللغة العربية بالقاهرة، المعجم الوسيط ( القاهرة : مجمع اللغة العربية، 1960).(15) نقلاً عن : علي القاسمي، معجم الاستشهادات (لبنان: مكتبة لبنان ناشرون، 2001).(16) عن الدكتور عبد الحافظ حلمي محمد ، عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة وأستاذ علم الأحياء في كلية العلوم بجامعة عين شمس. وانظر كذلك:- Colin Harison and Alan Green Smith, Birds of the World (London: Dorling, 1993)(17) أسامة بن منقذ، كتاب الاعتبار، تحقيق فيليب حتي (القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية، ب ت). (18) علي القاسمي، علم اللغة وصناعة المعجم ( بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، 2004) الطبعة الثالثة، ص 85.(19) نادية عمري ” ترتيب الصفات في اللغة العربية ” في مجلة ” أبحاث لسانية“ الرباط، مجلد 9، عدد 2 (ديسمبر 2004) ص 9ـ80.(20) المرجع السابق، ص 45.  ولكن لو نظرت الباحثة الفاضلة إلى الترتيب من حيث قُربه وبُعده من الاسم الموصوف لوجدت أن العربية والإنكليزية متفقتان في الترتيب. (21) علي القاسمي، دوائر الأحزان، قصص قصيرة (القاهرة: دار ميريت، 2005)، قصة التفاحة المحرمة، ص 19ـ26.

في إعادة ترجمة الأعمال الأدبية المُترجَمة
البروفيسور علي القاسمي

لماذا تُترجِم ما تُرجِم سابقاً؟
سألني صديق عزيز:  ـ ” لماذا تُترجِم ” الشيخ والبحر” لأرنست همنغواي، وأنتَ تعلم أنّها نُقِلتْ إلى العربيّة عدّة مرّات منذ أكثر من نصف قرن؟”،

نفاد الطبعات القديمة:

كان في ميسوري أن أجيب على سؤاله بعدّة طرق؛ كأن أقول، مثلاً:ـ ” لقد نفدت طبعاتها في السوق. ولم تعد تلك الترجمات متوفّرة للجيل الجديد من القراء الذي ينبغي أن يطّلع على الأعمال الأدبية الكبرى، حتّى لو مرّ عليها زمن طويل. وهذه القصّة بالذات هي أفضل أعمال أرنست همنغواي، الذي يعدّ أشهر أدباء أمريكا على الإطلاق. فهي تعلّم التعلّقَ بالحياة، وتمجّد حبَّ العمل، وتشيد بمواصلة الإنسان نضاله، من أجل السيطرة على الطبيعة وتسخيرها لترقية حياته وزيادة رفاهيته.”

اللغة تتغيّر وتتطوّر:
وكان في استطاعتي أن أجيب قائلاً:
ـ ” إنّ علماء اللغة وخبراء الترجمة يوصون بإعادة ترجمة الأعمال الأدبيّة الخالدة بين حقبة زمنيّة وأخرى؛ لأنّ اللّغة في تحوّل وتغيّر وتطوّر باستمرار. ففي كلّ يوم، تشيخ كلمات وتموت كلمات وتولد كلمات. في كلّ يوم، تكتسب بعض الألفاظ معانٍ جديدة، أو تُستعمَل في تعبيرات وسياقات مختلفة عن استعمالاتها السابقة، أو تتلوّن بظلال من الدلالات المركزيّة والهامشيّة، وبالاستعمالات الحقيقيّة والمجازيّة، فتسمو في عيون الناطقين باللغة أو تتدنّى قيمتها في نفوسهم. في كلّ يوم تقترض اللغة مفردات جديدة من لغات صديقة أو عدوّة، وتستوعب مفاهيم جديدة لم تكُن مألوفة لأهلها. والأساليب، هي الأخرى، في تغيّر وتطوّر متواصلَين. فأسلوب السجع المرصَّع بالمحسنات البديعيّة والموشّى بالكلمات الحوشيّة النادرة، الذي كان يعتبر في وقت من الأوقات قمّة البلاغة ومنتهاها، لم يعُدْ اليوم ملائماً لروح عصر السرعة الذي يتطلّب الكلمة الرشيقة، والعبارة القصيرة، والنقلة الخفيفة.

ولهذا كلّه، فإنّ شباب اليوم قد لا يتذوّقون ترجمة تمّت صياغتها قبل نصف قرن أو أكثر بلغة تبدّلت وتغيّرت.”
الترجمة تزيد متعة القراءة:
كان في مقدوري أن أجيبه قائلاً:
ـ “إنني استمتع بالقصّة أكثر، وأتمثّلها بصورة أعمق، وأتفاعل معها على وجه أصدق، عندما أقوم بتدريسها أو شرحها أو ترجمتها. و” الشيخ والبحر” قصّة أعجبتني جدّاً، لذا قررتُ لا أن أعيد قراءتها فحسب، بل أكثّف اللذّة وأصعّد المتعة كذلك عن طريق ترجمتها إلى اللغة العربيّة.
الترجمة تُعلّم الكتابة الأدبيّة:
كان في إمكاني أن أجيبه بالقول:
ـ عندما أقرأ الأعمال القصصيّة والروائيّة الخالدة باللغات الأخرى، أتعلّم منها، بصورة واعية أو لاواعية، بعض تقنيات الكتابة السرديّة. وعندما أقوم بترجمتها إلى العربيّة، أتعامل مع النصِّ بعناية بالغة، وأغوص في دقائق تعبيراته، وأتعمّق في أغوار معانيه وشعاب مراميه المرجانيّة؛ فأتدرَّب بذلك على السباحة في استعمال تقنيات سرديَّة قد استثمرها في كتاباتي الإبداعيّة.

المترجم والمُمثِّل:
كلّ تلك الإجابات صحيحة صادقة مخلصة، في نظري. بَيد أَنّي آثرتُ أن أجيب على الوجه التالي:
ـ المُترجِمُ وسيطٌ بين مؤلِّف أجنبيّ وقارئ وطنيّ؛ وسيطٌ بين لغة الأصل المُرسِلة ولغة الترجمة المتلقِّية؛ وسيطٌ بين الثقافة التي كُتِب فيها النصّ والثقافة التي نُقِل إليها النصّ. ويتوقّف نجاح الترجمة على كيفيّة أداء هذا الوسيط لدوره وإتقانه له. ويعتمد تفوّق المُترجِم على تمكّنه من اللغتَين، وإلمامه بالثقافتَين، ومعرفته لموضوع النصّ، وإدراكه لأسلوب المؤلِّف وتقنيّاته.

المُترجِم كالمُمثِّل تماماً. فالمُمثِّل، كذلك، وسيطٌ بين كاتِب النصِّ المسرحيّ أو السينمائيّ وبين الجمهور الذي يشاهده على المسرح أو في السينما. ولهذا، يمكن أن تُمثَّل المسرحية نفسها مرّتين من قِبَل فرقتَين متباينتَين في آن واحد، ويستطيع الجمهور أن يُدرِك الفرق في أداء الممثِّلين لأدوارهم. والممثِّل الناجح هو الذي يستطيع أن يترجِم روح النصّ للجمهور فيؤثِّر فيه، ، ويهِب النصَّ حياة جديدة، ويُضفي عليه ألواناً خلابة، فيمنحه متعة أكبر، فيتجاوب الجمهور معه بشكل أفضل؛ لأنّ معنى النصّ المسرحيّ لا ينبني على ما يقوله الممثّل فقط، وإنّما كذلك على كيف يقول ما يقول. وكيفية القول هذه يُمكن أن تغيّر المعنى تماماً إلى ضدّه. ألم ترَ أن شخصاً يقول لك ” السلام عليكم ” فلا تردّ عليه؟

إنّ مسرحية ” تاجر البندقية” الشهيرة كتبها وليم شكسبير (1564 ـ 1616م) لغرض تصوير جشع المرابي اليهوديّ ” شايلوك” ودناءته وخسّته وحقده على التاجر الشاب اللطيف الوديع البريء ” انطونيو” الذي جاءه ليقترض منه المال، فجعله يوقّع عقداً يسمح لشايلوك باقتطاع رطل من لحم جسد انطونيو إذا لم يسدّد القرض في الموعد المضروب. إنّ هذه المسرحية لم تُمثَّل منذ مدة طويلة ولا يمكن إخراجها اليوم على المسارح الأوربيّة، كما كتبها شكسبير، في ظل قوانين تُعاقِب على ” معاداة الساميّة”. ومع ذلك، فقد قرأتُ، قبل مدّة، أنّ هذه المسرحيّة ذاتها قد أُخرجت ومُثّلت بجميع كلماتها وعباراتها الأصليّة كاملة غير منقوصة على مسرح بريطانيّ، دون أن تتعرض لتهمة ” معاداة السامية “، بل على العكس، نالت رضا الجالية اليهوديّة ومباركتها. لماذا؟ لأنّ مخرج المسرحيّة وممثلوها قدّموها على المسرح بطريقة تجعل من شايلوك ضحيةَ مجتمع يمارس التمييز العنصريّ ضدّه بسبب دينه أو عرقه، وأنّ محامي أنطونيو بدا في هذه المسرحيّة رجلاً لئيماً يحتال على القوانين من أجل السماح لموكِّله أنطونيو بعدم تسديد دَينه المستحقّ، فقال إنّ شايلوك يستطيع أن يقتطع رطلاً من اللحم من أيّ جزء من أجزاء جسد أنطونيو، على شرط أن لا تُراق قطرةُ دم واحدة، لأنّ الدم لم يُذكَر في العَقد. ومما يزيد من مُصاب شايلوك المسكين أن المحكمة، هي الأخرى، تآمرت عليه وقضت بمصادرة أمواله. فهل هنالك ظلم أكثر من هذا الظلم؟!

كيف يؤدّي الممثِّل دوره على المسرح، وكيف يقول النصّ، وبأيّ تنغيم ونبر وطبقة صوت ينطق كلماته وعباراته، وأيّ حركات جسميّة وإشارات يدويّة يقوم بها لمرافقة النصّ ـ كلّ ذلك قد يغيّر من معاني النصّ ومراميه حتّى لو احتفظ الممثّل بحرفيّة النصّ الأصليّ. فالأمانة، في الترجمة وفي التمثيل، لا تقتصر على نقل المعنى أو المضمون فحسب، وإنّما تتضمن كذلك نقل روح النصّ وغاياته ومقاصده. وأمانة المُترجِم ليست مرهونة بنقل المضامين فقط، بل بنقل الأساليب أيضاً. فحاصل المعنى يتأتى ممّا قيل في النصّ ومن الكيفيّة التي قيل فيها.

ولهذا كلّه، نجد أن بعض الأعمال الأدبيّة الكبرى قد تُرجِمت عدّة مرّات إلى اللغة الواحدة. ففي اللغة العربيّة، مثلاً، نجد ثماني وأربعين ترجمة لرباعيات عمر الخيام. ولا تتباين هذه الترجمات من حيث عدد الرباعيّات المُترجَمة، ونقلها من اللغة الفارسيّة مباشرة أو عن طريق لغة أخرى، أو كونها شعرية أو نثرية، فحسب؛ بل تتباين أيضاً من حيث أمانتها وجودتها النوعيّة.

الاستعدادات لترجمة ” الشيخ والبحر”

في أثناء استعدادي للإقدام على ترجمة ” الشيخ والبحر” لم أكتفِ بتمضية ليلة كاملة في مركب شراعيّ صغير يقوده صياد سمك في شواطئ مدينة الصويرة المغربيّة، وإنما اقتنيتُ شريطَين سينمائيَّين أنتجتهما هوليوود لهذه القصة: أحدهما من بطولة سبنسر تريسي والآخر من بطولة أنطوني كوين. وعلى الرغم من أن النجمَين ، تريسي وكوين، من أبرع الممثلين في تاريخ السينما الأمريكيّة، فإن أداءهما مختلف بطبيعة الحال. وهذا هو سرّ إعادة إنتاج القصّة نفسها باللغة الإنجليزيّة ذاتها في أكثر من فيلم واحد. ومن طريف ما يُروى أن أرنست همنغواي قال بعد أن شاهد الفيلم الذي اضطلع ببطولته سبنسر تريسي، والذي رُشِّح بناء عليه لنيل جائرة الأوسكار: ” إن سبنسر تريسي بدا في هذا الفيلم أبعد ما يكون عن صيّاد كوبيّ فقير، وأقرب ما يكون إلى ممثّل أمريكيّ عجوز غني.”

أسلوب همنغواي، السهل المُمتنع:
إنّ جُلّ الذين ترجموا ” الشيخ والبحر” إلى العربيّة، أغراهم قصر النصّ وبساطة اللغة. فـ ” الشيخ والبحر” هي قصة قصيرة وليست رواية؛ بَيد أنها أطول قصّة قصيرة كتبها همنغواي، ولهذا فإنّ بعض مَن يصنّف النصوص السرديّة بحسب طولها يعدّها “قصّة طويلة” أو “رواية قصيرة”. ولكنّني أعدّها قصّة قصيرة بالنظر إلى بنيتها وعدد شخوصها والتقنيات السردية المستخدمة فيها.

ومعروفٌ أنّ كتابة القصّة القصيرة وترجمتها أصعب بكثير من كتابة الرواية وترجمتها، لأنّ القصّة القصيرة ـ كما يكتبها همنغواي ـ مكثّفة ومترابطة عضويّاً، وتستخدم لغة الرمز والإيحاء والتلميح، وكلّ مفردة فيها تحيل على ما قبلها وتمهّد لما بعدها من ألفاظ، وكلّ كلمة تحتلّ موقعاً خاصّاً بها ولا يمكن نقلها منه أو إحلال كلمة مرادفة محلّها؛ وكلّ عبارة بُذرِت بدقّة في موضعها، وأطّرتْها، بحذق ودراية، عبارات بمثابة السماد اللازم لنمو الزهر ذي الأريج الفوّاح. ولهذا كثيراً ما اضطرَ همنغواي إلى إعادة كتابة الفقرة الواحدة عدّة مرات قد تبلغ السبعين مَرّة أو أكثر في بعض أعماله، لتكون في صورتها النهائيّة كما أرادها. فهو كاتب مجوّد يُذكرنا بالشاعر الجاهلي زهير بن أبي سُلمى في حوليّاته التي يمضي في تنقيحها وتعديلها وتجويدها وتجميلها حولاً كاملاً قبل أن يطلقها.

إنّ معظم الذين ترجموا ” الشيخ والبحر” لم يأخذوا في الاعتبار خصائص أسلوب همنغواي ولا تقنياته السرديّة. والمقصود بالأسلوب هو مجموعة الملامح التعبيريّة التي يختارها المؤلِّف من العناصر اللغويّة القابلة للتبادل لنقل مقاصده إلى القارئ والتأثير فيه. ويختلف الأسلوب من كاتب إلى آخر، بحسب نفسيته وثقافته وخلفيته الاجتماعية، حتّى قيل في الفرنسيّة: “إنّ الأسلوب هو الرجل (أو الشخص)” Le style est l’homme. أما التقنيّة فهي وسيلة فنيّة أو صنعة يستخدمها المؤلِّف في تشكيل عمله الأدبيّ بحيث تتضافر مع التقنيّات الأخرى لتحقيق أهدافه وإنتاج التأثير المطلوب في نفس القارئ.

وخلاصة القول إنّ ترجمة الأعمال الأدبيّة تتطلّب من المترجم تخصُّصاً في الجنس الأدبيّ الذي يترجمه، وإلماماً بالمجال الموضوعيّ الذي يتناوله، ومعرفة بثقافة المؤلِّف الأصليّ وحضارة العصر الذي عاش فيه، واستيعاباً لأسلوب الكاتب وتقنيّاته في الكتابة، إضافة إلى تمكّن المترجِم من أسرار اللغة المنقول منها واللغة المنقول إليها.

فإذا نقلَ المترجِم مضامين النصّ الأدبيّ دون أن يحفل بأسلوب الكاتب الأصليّ ولا بتقنيّاته السرديّة، أخلّ بالأمانة العلميّة ولم تكن ترجمته مُمثِّلة للأصل بصدق. فنحن لا نترجِم المضامين فقط وإنّما نترجم الأساليب والتقنيات كذلك. وأزعم أنّ ترجمتي لقصة ” الشيخ والبحر” راعت أسلوب همنغواي وتقنيّاته، كما حافظت على مضامين النصّ ومراميه. هنا يحقّ للقارئ أن يسأل: ما هي الخصائص الرئيسة لأسلوب همنغواي وما هي أهم تقنيّاته؟
خصائص أسلوب همنغواي وتقنيّاته:
يُمكننا إجمالها بما يأتي:

1)السهولة:
أسلوب همنغواي سهل ممتنع. وهو من رواد الأسلوب الواقعيّ المُرسَل الذي حرّر الكتابة الأدبيّة الإنجليزيّة من التراكيب المعقّدة، ومن المفردات الصعبة والنادرة والحوشيّة والأنيقة، وانتقل بالكتابة إلى الألفاظ البسيطة والتعبيرات الواضحة. يقول همنغواي في كتابه ” الوليمة المتنقّلة” :

“ولكن يحدث أحياناً أن أشرع في كتابة قصة ما ولا أتمكّن من التقدّم فيها… أقول لنفسي: لا تقلق. لقد كنتَ تكتب دوماً من قبل وستكتب الآن. كلّ ما عليك أن تفعله هو أن تكتب جملة حقيقيّة واحدة…جملة خبريّة حقيقيّة بسيطة…” (1).

وهذا يُذكّرنا بالشاعر المرحوم نزار قباني الذي قال ذات يوم إنّه لا يختار كلماته من معاجم المجامع اللغويّة وإنّما من كلام الناس البسطاء الحقيقيّين.

ولهذا، فإذا نقل المترجم كلمات همنغواي السهلة وعباراته البسيطة بلغة مثقلة بالمفردات الرنّانة، والكلمات الطنّانة، والتعبيرات المسكوكة القديمة، والتراكيب المعقدّة السقيمة، فإنّه يحيد عن روح النصّ الأصليّ ويبتعد عن مقاصد الكاتِب.

2) الاقتصاد في اللغة:
يعبّر همنغواي عن الفكرة بأقلّ عدد من المفردات. وهذا ما جعل الناقد أنتوني برجس (Anthony Burgess) يقول عن قصة ” الشيخ والبحر” : ” إنه نصّ لا يُضاهى. كلّ كلمة فيه ذات دلالة، ولا يوجد لفظ واحد زائد.”(2)
فإذا راح المُترجِم يضيف عبارات لم يقُلها همنغواي، أخلّ بالاقتصاد في اللغة، حتّى إن كان غرضه جعل النصِّ أكثر وضوحاً وأيسر فهماً. على المترجم أن يتّبع طريقة أخرى لتحقيق الوضوح المنشود.

3) عدم المبالغة Understatement:
يترجم المرحوم منير بعلبكي في معجمه الجيد ” المورد” هذا المصطلح الإنجليزي بـ ( التصريح المكبوت)، أي تصريح مقصود به أن يصوّر الفكرة على نحوٍ أضعف أو أقلّ مما تقتضيه الحقيقة”. ويقابل ذلك (المبالغة) أو (المغالاة )Overstatement وهو تصريح مقصود به أن يصوّر الفكرة على نحوٍ أقوى أو أكثر مما تقتضيه الحقيقة. وكأنّي بهمنغواي قد تعلّم عدم المبالغة في السرد من عمله الصحفيّ الذي يتطلّب أن ينقل المراسلُ الصحفيُّ الحوادثَ بنوع من الحياد وعدم إضفاء أيّة عاطفة على الخبر.

4) الحيادية في السرد:
وهذه الخاصّيّة ترتبط بالخاصّيّة التي سبقتها، أي عدم المبالغة، بل تعمّقها وتوضّحها. وتعني الحياديةُ في السرد نقلَ الأحداث ووصفَ الأشخاص بطريقة شفّافة، مُجرّدة من أية إيدولوجيّة، ومنزَّهة عن أيّة فكرة مسبقة. وكأنَّ همنغواي تعلّم الحياديّة في السرد من عمله الصحفيّ الذي يتطلّب أن ينقل الصحفيُّ الحوادثَ بنوع من الحياد وعدم إضفاء عاطفة على الخبر وعدم نقله من وجهة نظر سياسية معيّنة، كما ذكرنا. وهذا ما يسميه رولان بارت ” الدرجة الصفر للكتابة “، ويعني أن تكون الكتابة محايدة تماماً، مجرَّد أداة، يتخلّى فيها الكاتب إراديّاً عن كلّ لجوء إلى التزيين أو التزويق أو الأناقة في التعبير، والابتعاد عن الالتزام بأيّ موقف اجتماعيّ أو أسطوريّ للغة، بل أكثر من ذلك يُفضَّل عدم تعبير الكتابة عن جنس المتحدّث أو حالته (مفرد أو جمع) ولا عن زمن الحدث (في الماضي أو الحاضر)، بحيث تكون أفضل أنواع الكتابة هي اللاكتابة، وأجمل الأساليب هو غياب الأسلوب. إنّه الحياد التام أو الصمت(3).

5) اللغة الإشارية: الإشارة لا العبارة والتلميح لا التصريح:
أو ما أسماه نقّاد همنغواي بتقنيّة ( جبل الجليد) التي ابتكرها. فهو لا يكشف لك من الحقائق والمشاهد إلا جزءاً يسيراً ويترك الباقي لكَ لتُعمِل فيه خيالك وتأويلك؛ ولكلّ قارئ خياله وتأويله. فجبل الجليد في المحيط لا يظهر منه إلا قمّته الصغيرة، وعلى المُشاهِد أن يتخيّل ضخامة قاعدةِ الجبل المغمورة في الماء. وليست الإشارة التي يستخدمها همنغواي تقتصر فقط على الشكل (أي اللغة الإشاريّة)، وإنّما تمتدّ كذلك إلى المضمون ( أي تفاصيل الحدث). كلمات موحية، ونقاط فقط من وقائع الأحداث، عليك أنت أن توصلها وتلونّها لتكتمل لك اللوحة.
ولهذا فإذا استخدم المترجِم العبارة بدل الإشارة واستعمل التصريح بدل التلميح، أفسد هذه التقنيّة السرديّة التي كان استخدامها يتطلّب جهداً كبيراً من همنغواي.

6) اللامباشَرية:
أي أنّه يبتعد عن الأسلوب التقريريّ، ويتجنّب إعطاء القارئ معلومات بصورة مباشرة. إنّه يسرد الأحداث كما وقعت ليترك للقارئ فرصة استخلاص المعلومات أو النتائج منها. يتحدّث همنغواي في ” الوليمة المتنقلة” عن لقائه الأوّل بالروائيّ الأمريكيّ الشهير سكوت فتزجيرالد في باريس، فيقول:
” كان سكوت يعتقد أن بوسع الروائيّ أن يعثر على ضالته بتوجيه الأسئلة المباشِرة إلى أصدقائه ومعارفه. ولهذا كان التحقيق مباشراً” (4)

7) إشراك القارئ في العمليّة الإبداعيّة:

ويتأتّى له ذلك باستخدام تقنيّات متعدّدة مثل طرح السارد أسئلة دون إعطاء الجواب عليها، بحيث يجد القارئ نفسه مطالباً بالإجابة عنها، أو استعمال ضمير المخاطب أحياناً في السرد ليُشرك القارئ في الحوار ويجعله طرفاً معنياً بالحوادث وما يجري في القصّة، أو ترك فراغات في النص يميل القارئ إلى ملئها واستكمالها طبقاً لنظرية الجشتالت. يقول همنغواي في ” الوليمة المتنقّلة” (لاحظ استعمال ضمير المخاطب في النصّ):

” كانت قصة بسيطة جداً، بعنوان (في غير أوانه)، وحذفتُ نهايتها الحقيقيّة التي تتضمّن قيام الرجل العجوز بشنق نفسه. وقد أجريتُ الحذف بناء على نظريتي الجديدة القائلة بأنّكَ تستطيع أن تحذف أيّ شيء إذا كنتَ تعرف ما تحذف، وهذا الحذف سيقوّي القصّة ويجعل الناس يشعرون بأكثر مما فهموه.”(5)

إنّ خصائص أسلوب همنغواي تلك هي التي جعلت ناقداً أمريكيّاً كان يقيم في باريس، يقول لهمنغواي، لإغاظته:

” عليَّ أن أبلّغكَ أنّني أُلفي أسلوبك متخشِّباً بعض الشيء… إنّه متخشِّب كثيراً، وأَجْرَد كثيراً، وأَعْجَف كثيراً، ومتصلِّب كثيراً.” (6)

ترجمتي والترجمات العربيّة لقصّة “الشيخ والبحر”: دراسة مقارنة
ولمّا كنتُ أزعم أنّني ملمّ بتطوّر القصّة والرواية في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وترجمتُ عدداً من القصص الأمريكيّة مع مقدمات عن أساليب أصحابها في كتاب عنوانه ” مرافئ على الشاطئ الآخر: روائع القصص الأمريكية في القرن العشرين” (7)، وأنّني عارف بدور همنغواي في تطوير الأساليب الكتابيّة في اللغة الإنجليزيّة، فقد درستُه ودرّستُه في الجامعات، وترجمتُ بعض قصصه القصيرة، كما ترجمت سيرته الروائيّة ” الوليمة المتنقِّلة” التي يشرح فيها كيف تدرَّبَ على الكتابة في باريس عندما كان مراسلاً صحفيّاً، ويكشف فيها عن بعض تقنيّاته السرديّة ، وأنّ أسلوبي باللغة العربيّة يقترب في سهولته من أسلوب همنغواي في الإنجليزيّة، فقد دخل في روعي أنّني أستطيع أن أُنتج ترجمة جيدة لقصّة ” الشيخ والبحر”.
إنّ معرفتي بهمنغواي وثقتي بمؤهلاتي في ترجمته جعلتاني أترجم ” الشيخ والبحر”، أوّلاً، دون أن أقرأ أيّاً من الترجمات العربيّة الكثيرة لهذه القصّة، لئلا أتأثَّر بها بصورة أو بأخرى. وعندما انتهيتُ من ترجمتي، ألقيتُ نظرة على اثنتين من أفضل الترجمات العربيّة لمقارنتها بترجمتي:

الأولى، وهي أقدم الترجمات العربيّة وقد صدرت طبعتها الأولى قبل أكثر من نصف قرن، وقام بها مثقَّف عربيّ كبير، له فضل على الثقافة العربيّة تأليفاً وترجمة ونشراً، وتعلّمنا جميعاً منه وتتلمذنا على كتبه ومعاجِمه. لقد ألفيتُ ترجمته في غاية الروعة والبهاء، وتنمّ عن ثقافة واسعة، ودراية كبيرة باللغتَين الإنجليزيّة والعربيّة (8). قصدَ هذا المترجِم الفذّ أن يُرقّد نصّ همنغواي في تُربة الثقافة العربيّة لترسخ جذوره فيها وينمو ويُثمِر فيها. وأُقرُّ بأنّ ترجمته أفضل من ترجمتي بلغتها وأسلوبها العربيّ، ولكنّها أغفلت كثيراً من ملامح أسلوب همنغواي وتقنياته، كما سنرى. وسأشير إليها بالترجمة (أ).

الثانية، آخر الترجمات العربيّة لقصة ” الشيخ والبحر”، وصدرت في أواخر التسعينات من القرن الماضي، وقام بها أستاذ جامعيّ متخصّص، وهي ترجمة جيدة (9). وسأشير إليها بالترجمة (ب).
أمّا ترجمتي فسأشير إليها بالترجمة (ج) لغرض المقارنة.
ومع جودة معظم الترجمات العربيّة للقصة، فإنّني أُفضّل ترجمتي. وسأضرب أمثلة مقارنة، لعلّها تقنع القارئ بأسباب تفضيلي لترجمتي.

اختلافات على مستوى الألفاظ:
أولاً، لنأخذ افتتاحيّة ” الشيخ والبحر” بالإنجليزيّة كما كتبها همنغواي، ونقارن الترجمات الثلاث. ومعروفٌ أنّ النقد الحديث يعطي أهمّيّة كبيرة لـ (افتتاحيّة) القصّة، التي يسميها عادة (الاستهلال). يقول همنغواي:

He was an old man who fished alone in a skiff in the Gulf Stream and he had gone eighty-four days now without taking a fish. In the first forty days a boy had been with him.

لننظر الآن إلى ترجمة هاتين الجملتين في الترجمات الثلاث، والخطوط تحت بعض الكلمات من وضعي، تيسيراً للمقارنة:

الترجمة (أ):

” كان رجلاً عجوزاً يصيد السمك وحده في قارب عريض القعر في “تيار الخليج”، وكان قد سلخ أربعة وثمانين يوماً من غير أن يفوز بسمكة واحدة. وفي الأيام الأربعين الأولى كان يصحبه غلام صغير.”

الترجمة (ب):

“كان الرجل قد بلغ من الكبر عتياً..ولكنه لا يزال رابضاً في زورقه، وحيداً، يطلب الصيد في خليج “جولد ستريم”. وقد عبرت به حتى الساعة، أربعة وثمانون يوماً لم يجد عليه البحر خلالها بشيء من الرزق.
في الأيام الأربعين الأولى، كان له غلام يعينه على أمره.”

ترجمتي (ج):

“كان شيخاً يصيد السمك وحده بمركب شراعي صغير في ” مجرى الخليج” وقد أمضى حتّى الآن أربعة وثمانين يوماً دون أن يحصل على سمكة واحدة. وفي الأيام الأربعين الأولى كان معه صبيٌّ.”

في الظاهر، لا تختلف الترجمات الثلاث من حيث نقلها لمضمون النصّ الإنكليزيّ، ويكمن الاختلاف في اختيار بعض المترادفات مثل: عجوز/شيخ، غلام/صبي. فلماذا تُعاد الترجمة ويُهدَر الوقت والجهد؟

ولكن المتأمّل في الترجمات الثلاث قد يجد فروقاً جوهريّة، وإليك قراءتي المقارنة:
1) عجوز / رجل بلغ من الكبر عتيا/ شيخ:
تبدو هذه الوحدات المعجمية ذات دلالة واحدة، خاصة (عجوز) و(شيخ). ولكنّني لا أحبّذ استعمال كلمة (عجوز) في هذا الموضع للأسباب التالية:

أولاً، كلمة (عجوز) مشتقلة من (العَجْز) أي عدم القدرة على العمل، على حين أنّ الغاية الأساسيّة من قصة همنغواي هي تصوير نضال الإنسان المستمر وكفاحه المتواصل وعمله الدائم من أجل التحكّم في الطبيعة وترقية مستوى حياته. فعلى الرغم من أن صيّاد همنغواي رجل متقدّم في السِّن، فإنّه يتّسم بالاجتهاد في مواصلة العمل، والإيمان بنفسه، والثقة بحكمته وخبرته في مهنته. فهو يتحدّث عن “الحِيَل” التي يمكن أن يستخدمها في صيد الأسماك الكبيرة. وهذه ” الحيل” تعوّض ما فقده من قوّة بسبب التقدُّم في العمر. فهو، إذن، شيخٌ وليس عجوزاً. فكلمة (شيخ)، في اللغة العربية، تدلّ على (الشيخوخة) ولكنّها، في الوقت نفسه، تدلّ على الحكمة والمعرفة، فـ (الشيخ) هو رئيس القبيلة المعروف بحكمته، و(الشيخ) هو رجل الدِّين العارف بحدود الله. وكلمة (شيخ) تُستعمل في وصف أكبر أهل المهنة وأعرفهم بأصولها، فنقول ” فلان شيخ المؤرّخين” أو ” شيخ الروائيّين”؛ وصيّاد همنغواي هو ” شيخ الصيّادين”.

ثانياً، تقول المعاجم : ” عجوز ج عجائز: امرأة هَرِمة أو مُسِنَّة، ويقابلها “شيخ” أي رجل هَرِم، وقد يُقال للرجل عجوز كذلك.” (10). وهذا هو الاستعمال في القرآن الكريم، إذ ورد فيه:
﴿ أَأَلِدُ وأنا عجوزٌ وهذا بَعْلي شيخا﴾
فنحن نستعمل عادة (عجوز) للمرأة و (شيخ) للرجل. والتعبير السياقيّ الشائع ” عجوز شمطاء” ولم نسمع بمقابله * ” عجوز أشمط “. ومعظمنا يحفظ البيتَين المشهورَين التاليين، لأنّ عجز البيت الثاني ذهبَ مَثَلاً:

عجوزٌ ترجَّتْ أن تكونَ فَتيَّةً وقد نحلَ الجنبانِ واحدودبَ الظَّهرُ
تَدسُّ إلى العطارِ ميرةَ أهلها وهل يُصلحُ العطارُ ما أفْسَدَ الدهرُ

ونجد هذا الاستعمال في شعر المتنبي كثيراً، كقوله:

وإذا أشارَ مُحدِّثاً فكأنّهُ قِردُ يُقَهْقِهُ أو عجوزٌ تلطمُ

ونجد في تراث العرب الأدبيّ كثيراً من استعمال كلمة(عجوز) للمؤنَّث ولم نعثر فيه استعمالها للمذكَّر. وعلى كلّ حال، لا تُقال كلمة (عجوز) للرجل في قريتي حيثُ نشأتُ. وقد أخبرني الشيء نفسه، بالنسبة إلى المغرب، المترجِمُ الفذّ الأستاذ مصطفى القصري. وأنا لا استعمل في كلامي ولا في كتاباتي لفظ (عجوز) بهذا المعنى. ولكنّي لا أعترض على استعمالها من لدن كاتب آخر، فالمعاجم تجيز له ذلك على الرغم من أنّني أشك في أنّ معظم معاجمنا تمّ تأليفها بالنقل من معاجم أخرى ولم تعتمد على مدوّنة نصوص فعليّة تمثّل اللغة العربية كما نستعملها.

أما بالنسبة لتعبير ” رجل بلغ من الكِبر عتيا ” الذي ورد في الترجمة (ب)، فإنه يدلّ على المعنى المطلوب، ولكن يُعاب عليه عدم الاقتصاد في اللغة، إذ عبّر بخمس كلمات عمّا يمكن أن نعبِّر عنه بكلمة واحدة هي (شيخ). وكذلك فهو تعبير قرآني قلّما يُستعمَل في اللغة الحديثة العاديّة التي يصرّ همنغواي على استعمالها.
2) في قارب عريض القعر/ في زورقه/ بمركب شراعي صغير:

نلاحظ، قبل كلّ شيء، فرق في حرف الجر، ففي الترجمة (أ) في قارب، وفي (ب) في زورقه، وفي (ج) بِمركب. وهو فرق طفيف إذا علمنا أنّ كتب النحو تقول إنّ حروف الجرّ ينوب بعضُها عن بعض. ومع ذلك، فلا بدّ من الإشارة إلى أنّ حرف الجر (في) يدلّ من حيث الأساس على الظرفيّة المكانيّة أو الزمانيّة، على حين أنّ حرف الجر (بـِ) يدلّ هنا على الظرفيّة المكانيّة وعلى الاستعانة أو الأداة، كما تقول ” أكتب بالقلم” وليس * (أكتب في القلم)، فهو يصيد السمك بقارب.

وتكمن المشكلة الثانية في معنى كلمة(Skiff ) الإنجليزيّة.

يستعمل همنغواي في” الشيخ والبحر” كلمتين فقط لوصف ما يركبه الشيخ في البحر، هماBoat) المتَّفق على مقابلها العربيّ (قارب)، و (Skiff) التي لا يوجد لها مقابل مفرد دقيق في اللغة العربيّة. في هذه الحالة، يتحوّل المترجِم، أو حتّى المعجميّ الذي يصنّف معجماً إنجليزيّاً ـ عربيّاً، إلى مصطلحيّ يتولّى توليد كلمة أو صياغة عبارة تدلّ على مفهوم هذا المصطلح.

كيف يعمل المصطلحيّ لتوليد لفظ يدلّ على مفهوم جديد؟
أولاً، يرسم شجرة أو مخططاً للمنظومة المفهومية التي ينتمي إليها المفهوم الجديد، لكي يقف على جنس الشيء، ويحدّد خاصّته الذاتيّة (أو خصائصه) التي تميزه عن بقية الأنواع المنضوية تحت ذلك الجنس لتكون فصلاً نوعيّاً له. ثم يضع مصطلحاً بسيطاً أو مُركّباً يدلّ عليه. وعندما نعود إلى وصف الشيء المسمّى بالإنجليزية Skiff نجد أنه ” قارب أو مَركَب، ذو قعر عريض، يتسع لمجّذِّف واحد، وله شراع في الوقت نفسه، بحيث يستطيع صاحبه أن يستعمل المجذافَين عند الخروج من المرفأ ثم يستخدم الشراع في عرض البحر”. ولكنّ المعجميّ لا يستطيع أن يضمّن كلّ تلك الخصائص في المقابل الذي يولّده. ولهذا نجد معجم أكسفورد الإنجليزيّ ـ العربيّ، يعطي المقابل التالي: ” زورق صغير خفيف لمُجذّف واحد” (11). فهنا اعتبر المعجميُّ/المصطلحيُّ أنّ الزورق هو الجنس الذي ينتمي إليه الـ Skiff وأنّ المُجذِّف الواحد هو الفصل النوعيّ الذي يميّزه عن بقية الزوارق، مثل زورق شراعيّ وزورق بخاريّ وغيرهما.

أمّا المرحوم منير بعلبكي في معجمه القيّم ” المورد”، فقد أعطى Skiff المقابل: ” مَرْكب شراعيّ صغير”،(12) أي أنّ المَرْكب هو الجنس وأنّه اختار اثنتين من الخصائص لتمييز هذا المركب عن بقيّة المراكب، هما وسيلة الحركة (الشراع) والحجم (الصغر).

في الترجمة (أ) استعمل المترجِم ” قارب ذو قعر عريض” ، مُعتبِراً أنّ صفة القعر هي التي تميّز هذا القارب عن غيره من القوارب. وفي الترجمة (ب) استخدم المترجم المقابل “زورق” بدون خصائص مميزة، معتبراً أن خصائص هذا الزورق بالذات سترِد في بقية القصّة. وفي ترجمتي (ج) استعملتُ “مركب شراعيّ صغير”، معتبراً أنّ الشراع هو الخاصيّة الأهم، لأنّ همنغواي يتحدّث عنه كثيراً، فهذا الشراع مرقَّع وعندما يعود الشيخ بلا سمك، يطويه على السارية ويحملها مثلما يحمل الجنديّ رايةَ الهزيمة. وفي الواقع، فالألفاظ ” قارب” و “زورق” و “مركب” تُستعمل في اللغة العربيّة بوصفها مترادفات. وقد فضّلتُ استعمال مركب هنا مع وصفه بـ “شراعيّ” و “صغير”، لكي تبقى كلمة “قارب” مقابلاً لكلمة Boat التي استعملها همنغواي كثيراً في القصّة.

3) تيار الخليج / خليج غولدستريم / مجرى الخليج:

Gulf Stream اسم ظاهرة جغرافيّة طبيعيّة، مفادها وجود مجرى محدّد داخل المحيط الأطلسيّ يمتدّ من خليج المكسيك جنوباً إلى جزيرة فواندلاند بالقرب من كندا، وفي داخل هذا المجرى يجري تيّار، ويتّحد هذا التيار مع تيار الأطلسيّ الشماليّ. ويمكن مشاهدة هذا المجرى والتيّار الذي في داخله بالعين المجرَّدة، فهو متميّز بمياهه عن بقية مياه المحيط؛ إنّه مجرى أو جدول داخل خليج المكسيك. ويذكّرنا هذا بالنيل الأزرق والنيل الأبيض المختلفين في لون مياههما، بالقرب من الخرطوم في السودان. وفي حالات كهذه، ينبغي أن يعود المترجِم إلى معاجم متخصّصة في الجغرافية. وعند العودة إلى ” المعجم الموحد لمصطلحات الجغرافية ” نجد أنّه واضح في تمييزه بين مجرى وتيّار على الوجه التالي:

تيّار Current
مجرى، جدول Stream (13)

إذن، لماذا فضّل صاحب الترجمة(أ) مصطلح ” تيّار الخليج ” على المصطلح الصحيح “مجرى الخليج “، وهو، في تقديري، أدرى بالفرق بين المصطلحَين؟ أَحْسبُ أنّه كان يدرك أنّ القارئ العاديّ يتقبّل وجود تيّارات في الخليج، ولكن عبارة “مجرى الخليج” تبدو غريبة للقارئ إذا لم تكُن له ثقافة جغرافيّة أو لم يكن قد زار خليج المكسيك ورأى ذلك المجرى المستقلّ داخل مياه الخليج. إضافة إلى أنّ المترجِم لم يبتعد عن الحقيقة، ففي “مجرى الخليج” يوجد تيّار يتجه شمالاً.

أما صاحب الترجمة (ب) فاعتبر أنّ هذا المصطلح هو اسم مكان وله الحقّ في تعريبه بلفظه الأجنبيّ. ولكن وقع خطآن في النصّ: الأول، هو أن نصْف الاسم مترجم ثم أُتبِع بالاسم معرَّباً بأكمله بلفظه الأجنبيّ فقال ” خليج غولد ستريم “، الثاني، هو وقوع خطأ مطبعيّ فظهرت كلمة “غولد” والصحيح هنا ” غولف” وهي الكلمة التي ترجمها بـ ” خليج”.

أما في ترجمتي (ج) فقد فضّلتُ أن أترجم الاسم مستخدماً المصطلح المقابل الصحيح كما يعرفه الجغرافيّون، مهتدياً بمبدأ “لا يصحّ إلا الصحيح”.

4) قد سلخ 84 يوماً/ قد عبرت به 84 يوماً/ قد أمضى 84 يوماً:

في الترجمة (أ) نجد كلمة (سَلَخَ)، وهي كلمة جميلة لا يعثر عليها الكاتِب إلا إذا كان متمرِّساً وقام ببحث واستقصاء عنها، فهي “كلمة مستقصاة” كما يقول الفرنسيون: Un mot recherché. وأنا شخصياً لم تصافح عيناي هذه الكلمة في ما أقرأ بالعربيّة منذ سنوات عديدة. فهي كلمة نادرة أو حوشيّة أو بلاغيّة (طبعاً بلاغيّة لأنّها استعارة من سلْخ جلد الحيوانات المذبوحة). وهمنغواي لا يستعمل الكلمات النادرة ولا الحوشيّة التي تقبع في بطون المعاجم، وإنّما يستعمل الألفاظ المتداولة في لغة الناس البسطاء اليوميّة ، كما ذكرنا.

في الترجمة (ب)، يوحي التعبير (عبرت به 84 يوماً) بأنّ الشيخ خامل والأيام تمرّ به دون أن يبذل جهداً، على حين أنّ همنغواي يريد أن يعطينا الانطباع بأنّ الشيخ يبذل جميع الجهد المطلوب في كلّ يوم، ويستثمر مجمل معارفه وخبراته، لاصطياد سمكة كبيرة.

في ترجمتي (ج)، ( قد أمضى 84 يوماً) هي المقابل الدقيق لتعبير had gone . فالفعل go يعني، في الأصل، ” ذهب، مضى…”. و(أمضى) على وزن (أفعلَ) يجعل من الصيّاد فاعِلاً وليس مفعولاً به.

5) من غير أن يفوز بسمكة واحدة/ لم يجُد عليه البحر خلالها بشيء من الرزق/ دون أن يحصل على سمكة واحدة

في الترجمة (أ)، يمكن أن نعتبر تعبير ( من غير أن يفوز بسمكة واحدة) ترجمة جميلة، بل تحسين للنصّ الأصليّ وتجويد له. فبدلاً من الكلمة العاديّة جداً taking التي استعملها المؤلِّف الأصليّ، استخدم المترجم ( الفوز) التي تقابل عادة winning وتتضمّن استعارة بلاغية تثير في نفس القارئ الشعور بأنّ الحصول على سمكة واحدة كان بمثابة فوز عظيم بالنسبة إلى الصياد الهَرِم الذي لم يحصل على سمكة واحدة خلال 84 يوماً.

هل يحقّ للمُترجِم تحسين النصّ الأصليّ في اللغة المنقول إليها؟ نعم، طبعاً. وسبق أن ذكرنا في موضع آخر أنّ القرّاء الفرنسيّين يُعجبون جداً بالكاتب الأمريكيّ أدغار ألن بو Edgar Allan Poe (1809ـ1849م)، أحد رواد القصّة القصيرة والقصّة البوليسيّة، على حين أنّه لا يحظى بالإعجاب ذاته لدى القراء الأمريكيّين في بلده الأصليّ. ويعود السبب في ذلك إلى أنّ الذي ترجمه إلى الفرنسية هو الشاعر الرومانسي الكبير شارل بودليرCharles Baudelaire ( 1821ـ 1887م) فصاغه بأسلوب سلس رقراق، تخلّص فيه من صعوبة أسلوبه الإنجليزيّ الأصليّ وتعقيداته.

بَيْدَ أن تحسين النصّ في الترجمة (أ) جاء على حساب تقنيّات همنغواي السرديّة. في نظري، إنّ تقنية همنغواي لا ترمي إلى إثارة عاطفة القارئ أو تعاطفه مع الصيّاد من الفقرة الأولى. فهو يصف الشخصيّات والأفعال والأحداث بصورة شفّافة محايدة لا تضبّبها عاطفةُ المؤلِّفِ أو تعاطفُه، كما لو كان يبعث بخبر صحفي إلى جريدته، بحيث لا يأخذ القارئ بالتعاطف مع الصيّاد الشيخ إلا تدريجيّياً، شيئاً فشيئاً، من جراء تتابع الأحداث التي يرويها السارد بصورة موضوعيّة. إنّها تقنيّة (التصريح المكبوح) أو (درجة الصفر في الكتابة) التي ذكرناها سابقاً، لا تقنيّة المبالغة والتهويل وإثارة العواطف بالمفردات. الأحداث والمواقف، لا المفردات والعبارات، هي التي يتفاعل معها القارئ. فهمنغواي يبدأ بإعطاء معلومات بسيطة بشكل محايد موضوعيّ، ظاهريّاً، في البداية، ثم يكثّف الأحداث بصورة تصاعديّة حتّى يصل بها إلى القمة، أو ما يسمى بـ (الذروة) Climax ، ويترك الحكم للقارئ، بل يجعله ينفعل بها ويتفاعل معها، فهو صحفيّ متمرِّس يعرف كيف يميّز بين نقل الخبر بموضوعيّة وبين التعليق على الخبر من وجهة نظر معيّنة.

عندما ذكرتُ ذلك لصديقي الذي وجّه إليّ السؤال في البداية عن أسباب إعادة ترجمة القصّة، لم يقتنع بحجّتي وقال إنّه يلفي عبارة ” مِن غير أن يفوز بسمكة واحدة” ترجمة جميلة، وإنّها تترك أثراً إيجابيّاً جيداً في نفس القارئ العربيّ وتتّفق مع ذائقته. ولهذا فقد اضطررتُ إلى مواصلة شرح تقنيّة ( التصريح المكبوح) في الآداب الغربيّة في مقابل ( التصريح المبالغ به) الذي يميل إليه بعض الأدب العربيّ. وضربتُ له مثلاً آخر من الشعر الفرنسيّ، بقصيدة للشاعر الفرنسيّ جاك برفير Jacques Prévert (1900ـ 1977م) وعنوانها “فطور الصباح”، وهذا نصّها الأصلي:
Dejeuner du Matin
Il a mis le café
Dans la tasse
Il a mis le lait
Dans la tasse de café
Il a mis le sucre
Dans le café au lait
Avec la petite cuillère
Il a tourné
Il a bu le café au lait
Et il a reposé la tasse
Sans me parler

Il a allumé
Une cigarette
Il a fait des ronds
Avec la fumée
Il a mis les cendres
Dans le cendrier
Sans me parler
Sans me regarder

Il s’est levé
Il a mis
Son chapeau sur sa tête
Il a mis
Son manteau de pluie
Parce q’il pleuvait
Et il est parti
Sous la pluie
Sans me regarder

Et mois j’ai pris
Ma tête dans ma main
Et j’ai pleuré
( الفراغات الأربعة بين مقاطع القصيدة من وضعي وإضافتي.)

هذه القصيدة الجميلة البسيطة في كلماتها وصيغ أفعالها وعباراتها، اتّبع بناؤها خطّة محكمة، ترتفع وتيرتُها بصورة هادئة تدريجيّة حتّى تبلغ ذروتها. وتمرّ الخطة في أربع مراحل:

أ‌) الرجل يتناول قهوته بتُؤَدَة، دون أن ينظر إلى الفتاة.
ب‌) الرجل يدخّن سيجارته بتمهُّل، دون أن يكلّم الفتاة ودون أن ينظر إليها.
ت‌) الرجل يتناول معطفه ويغادر المكان تحت المطر، دون أن ينظر إلى الفتاة.
ث‌) الفتاة تضع رأسها بين يديها، وتبكي.

وعندها يُدرِك القارئ أنّ الفتاة المتحدِّثة تُحبّ ذلك الرجل، مع العِلم أنّه لم تَرِد في القصيدة كلمة “أودّه” أو ” أُحبّه” أو “أهواه” أو ” أعبده” أو ما إلى ذلك. نُحسُّ بحبّها في آخر القصيدة عندما تبكي حين يغادر الرجل المكان دون أن ينظر إليها ودون أن يحدّثها. ولم يحصل البكاء إلا في البيت الأخير من القصيدة، بل في الكلمة الأخيرة بالذات من القصيدة. فالبكاء هو الذروة التي مهدّت لها جميعُ الأفعال الهادئة التي ذكرتها الفتاة بصورة موضوعيّة محايدة عاديّة. لم تصرّح الفتاة بحبّها للرجل، وإنما أشارت ولمّحت إليه.

وقد نُشِرت هذه القصيدة في مجموعة جاك برفير الشعريّة الموسومة بـ ” كلمات” Paroles الصادرة عن دار نشر غاليمار في باريس سنة 1949م. ويبدو أنّ الشاعر العربي الكبير المرحوم نزار قباني قد اطّلع على هذه القصيدة في النصف الأوّل من خمسينات القرن العشرين عندما كان دبلوماسيّاً في السفارة السوريّة في باريس، فأعجبته، فترجَم فكرتَها إلى العربيّة مع تعديلات، أو عارضَها، كما يقول الشعراء العرب القدامى، أو وقع له ” تنّاصُّ امتصاصٍ وتحويرٍ” كما يقول بعض النقاد المعاصرين، بمعنى أنّه قرأ القصيدة فتشبّع بها كما تمتصّ قطعة من الإسفنج قدراً كبيراً من الماء عندما تُغمَس فيه، ثم حوّرها وصاغها شعراً بالعربية. وهكذا كتب قباني قصيدةً عنوانها “مع جريدة” ظهرت في مجموعته الشعرية ” قصائد” الصادرة عام 1956. تقول القصيدة:

“أخرجَ من معطفه الجريدَهْ..
وعلبةَ الثقابِ
ودون أن يلاحظَ اضطرابي
ودونما اهتمامِ
تناوَلَ السُكَّرَ من أمامي..
ذوَّبَ في الفنجان قطعتَيْنْ
ذوَّبَني .. ذوَّبَ قطعتيْن
وبعد لحظتَيْنْ
ودون أن يعرفَ الشوقَ الذي اعتراني..
تناولَ المعطفَ من أمامي
وغابَ في الزحامِ
مُخلِّفاً وراءَهُ .. الجريدَهْ
وحيدةً
مثلي أنا.. وحيدَهْ.”

القصيدة جميلة وبسيطة في كلماتها وصيغ أفعالها وتراكيبها كذلك، ولقيت نجاحاً كبيراً عندما أدتها المغنية ماجدة الرومي بلحين رقيق؛ ولكنّها مليئة بكلمات الذوبان في الحبّ، والشوق، والوحدة من بدايتها إلى نهايتها. فالفتاة ـ كما يبدو الأمر في قصيدة قباني ـ لا تعرف الرجل جيّداً وإنّما رأته في مقهى، تُصرّح لنا في العبارة الرابعة من كلامها بأنّه ذوّب في الفنجان قطعتي سكّر فذوّبها حباً وشوقاً وغراماً وهياماً. وهكذا نصل الذروة دون مقدِّمات. إنّه التصريح المبالغ فيه، بعكس قصيدة جاك بريفير التي يمكن وصفها بالتصريح المكبوت. ولو كانت قصيدة قباني ترجمة لقصيدة بريفير، لقُلنا إنّه أفسدها بالمبالغة في الإفصاح عن المشاعر، وبالتصريح بدل شفافيّة الإشارة والتلميح اللذين تزدان بهما القصيدة الأصليّة.

إذن، هل يكمن الفرق في المزاج العربيّ “الحادّ” أو الذائقة العربيّة ذات العاطفة المتأجّجة التي تنفعل بالكلمات قبلَ الأفعال؟! وهل المبالغة والتهويل هما من سمات الشعر العربيّ (أعذبهُ أكذبهُ)؟!

إذا كان الأمر كذلك، فإنّ على الترجمة أن تساعدنا على فهم مزاج الآخر وذائقته بالإضافة إلى مفاهيمه ومضامينه، وأن تنقل إلينا التقنيّات التي تُستخدَم في إنتاج أدب رفيع، لتكون الترجمة، بحقّ وحقيق، جسراً تعبر عليه ثقافة الآخر، ونعرف بواسطتها طريقة تفكيره، ونفسيّته، وردود فعله، وأدبه، وفنّه.

بعد هذا الشرح المفصَّل، اقتنع صديقي بوجهة نظري، وآمل أن يكون القارئ الكريم، هو الآخر، قد قبل هذا الرأي.

في الترجمة (ب) يستعمل المُترجِمُ عبارة ” لم يجد عليه البحر خلالها بشيء من الرزق” مقابلاً لتعبير without taking a fish(وكان من الأفضل أن يُشكِل كلمة ” يَجُدْ” لئلا تُقرأ ” يَجِد”)، فنقول إنّها ترجمة بتصرُّف، ولكنّها أكّدت سلبيّة الصيّاد الشيخ، فالبحر هو الذي يجود عليه أو لا يجود، وهذا ما لا يريده همنغواي ويتنافى مع مقاصده (الأفضل أن نتحدث عن مقاصد النصّ ومراميه وليس مقاصد المؤلِّف، فقد تنحرف مقاصد النصّ عن مقاصد المؤلِّف الأصليّة عندما يخونه التعبير أو لا تطاوعه اللغة مطاوعة كاملة أو عندما يأخذ النصُّ في كتابة نفسه بنفسه).

ومن ناحية أخرى، فإنّ الترجمة (ب) ضحّت باقتصاديّة اللغة فاستخدمت ثماني كلمات في مقابل الكلمات الثلاث أو الأربع الأصليّة. وعلاوة على ذلك فهي استبدلت ( الرزق) وهو لفظ عامٌّ غير محدّد الدلالة بـ ( السمكة) وهي لفظ خاصّ دقيق المعنى، وهكذا قدّمت للقارئ مفهوم ( الرزق) و (التوكّل على الرازق) وهي مفاهيم لا يؤمِن بها همنغواي البتّة.

الصيّاد في الترجمة (ب) غير صيّاد همنغواي. صيّاد همنغواي هو صيّاد جادّ مثابر فاعِل مواظِب على الخروج إلى البحر يوماً بعد آخر، لا يكلّ ولا يملّ، بحثاً عن سمكة كبيرة، ويفعل من أجل اصطيادها كلّ شيء بدقة، ومهارة، وحذق، وخبرة. أمّا صيّاد هذه الترجمة (ب)، فهو صياد عجوز كسول متقاعس سلبي مفعول به؛ فالإيام هي التي تعبر به، والبحر هو الذي يجود عليه أو لا يجود. لقد حوّلت هذه الترجمة الفاعلية إلى المفعولية، وفاتتها روحُ النصّ الأصليّ، وأفسدت تقنيّات مؤلِّفه.

على الترجمة أن تحافظ على صيغ القول حتّى لو كانت النتيجة واحدة، خاصة صيغة الفاعليّة والمفعوليّة، وصيغة المبني للمعلوم والمبني للمجهول، وصيغة الكلام المباشر والكلام غير المباشر، إلخ. ولنضرب مثلاً على ذلك: لنتأمّل الصيغ الثلاث في العبارة التالية:

ـ كُسِرتِ الكأسُ.
ـ انْكسرتِ الكأسُ.
ـ كَسَرتُ الكأسَ.

النتيجة واحدة هي الكأس المكسورة. ولكنّ الطفل لا يقول، أبداً، لأُمّه: ” كسرتُ الكأسَ.” بل يقول عادةً: ” انكسرتِ الكأس.”

ترجمتي (ج) أتت بعبارة ( دون الحصول على سمكة واحدة). فهل نعدّ هذه الترجمة حرفيّة ركيكة أم أمينة دقيقة؟ فكلمة take تعني حرفياً (أخذ)؛ ومعنى (أخذه) الأصلي هو: (أمسك به أو حصل عليه)، كما يخبرنا “المعجم الوسيط” لمجمع اللغة العربية بالقاهرة (14).
6) كان يصحبه غلام صغير/ كان غلام يعينه على أمره/ كان معه صبيٌّ:

هذه العبارات هي من الترجمات (أ) و (ب) و (ج) على التوالي بوصفها مقابلاً للعبارة الأصلية ” A boy had been with him”.

في الترجمة (أ)، تدلّ عبارة (كان يصحبُه غلامٌ صغير) على أنّ الفاعل هو الصبيّ الذي يصحب الصيّادَ الشيخ، وكان من الممكن أن تكون الترجمة ” كان يصطحب غلاماً صغيراً.”، فيكون الصيّادُ الشيخُ هو الفاعل والغلام الصغير هو المفعول به، كما هو ظاهر من الحركة الإعرابيّة على آخره. وكلتا الترجمتين بعيدة عن حرفية النصّ ” معه with him”. ولعلّ صاحب الترجمة (أ) أراد أن يدبّج عبارة انسيابيّة ذات رنين عربي، فأضاف لفظين: الفعل ” يصحب” والصفة ” صغير” إلى الغلام، وهما لم يردا في النصّ الأصليّ. وعلى كلّ حال، فالعبارة ” كان يصحبه غلام صغير” جملة عربية بسيطة جميلة، ولكنّها ترجمة غير دقيقة.

في الترجمة (ب)، توجد في عبارة ” كان له غلام يعينه على أمره ” إضافةٌ تبيّن وظيفة “الغلام”، وهي “إعانة الشيخ على أمره” ولم تكن هذه الوظيفة موجودة في النصّ الأصليّ. وسيتبين لنا عند قراءة القصّة الأصليّة أنّ هذه الإضافة غير دقيقة وناقصة. فهذا “الغلام” كان مع الصيّاد الشيخ لإغراض ثلاثة: 1ـ ليتعلّم المهنة، و2 ـ ليكسب بعض النقود لأهله، و3 ـ لإعانة معلّمه، بطبيعة الحال.

في ترجمتي (ج)، استعملت عبارة ( كان معه صبيٌّ). وتبدو ترجمة حرفيّة للنصّ الأصليّ.

غلام/غلام/ صبيُّ:

وتختلف ترجمتي (ج) عن الترجمتين السابقتين باستعمال كلمة ” صبيّ ” بدلاً من كلمة ” غلام”. ولعلّ القارئ يقول: وما الفرق بين اللفظين؟ فمعظم المعاجم العربيّة تعرّف لفظ ” صبيّ” بمرادفه “غلام” وتعرّف “غلام” بمرادفه “صبيّ”.

بَيْدَ أنّ الألفاظ ليست كيانات قائمة بذاتها مثل جزر معزولة، ولا تُدرَك دلالاتُها من مجرّد سماع أصواتها. إنّ الألفاظ تشكّل أجزاء متداخلة في نسيج لغويّ واجتماعيّ وثقافيّ وتاريخيّ؛ وتكتسب دلالاتها من بنية هذا النسيج برمّته. فدلالة اللفظ وإيحاءاته النفسيّة مُستمدّه من مجموع استعمالاته في مجمل عصور اللغة وفي جميع مجالاتها المعرفيّة.

لنتطرّق لبعض الفروق بين ” غلام ” و ” صبيّ”:

أ ـ “غلام” ليس له مؤنّث من جنسه، على حين أنّ مؤنّث “صبيّ” هو ” صبيّة”.

ب ـ لو نظرنا في “المعجم العربيّ الأساسيّ” إلى مَدخلَي ” غلام” و “صبيّ “، لألفينا أنّ لهما عدّة معانٍ ولا يتّفقان إلا في المعنى الأول:
صبيّ: 1) صغير دون الفتى عُمراً.
غلام: 1) صغير دون الفتى عُمراً.
ولكنّهما مختلفان في المعنى الثاني، على الوجه الآتي:
صبيّ: 2) مَن يتدرّب على مهنة أو حرفة بإشراف مُعلِّم
غلام: 2) خادم.

وهكذا يتبين لنا أن boy في قصّة همنغواي هو (صبيّ) وليس (غلاماً).

لكلمة (غلام) معنى ثالث مُمَات، أي لم يعُد مُستعملاً، ولم يذكره ” المعجم العربيّ الأساسيّ”، لأنه معجم مدرسيّ صغير. فقديماً كان الغلام يعني العَبْد المملوك. ولكلمة “غلام”، في هذا المعنى، مؤنثٌ ليس من جنسها هو “جارِيَة” وجمعها “جوارٍ (الجواري)”. ويذكّرنا هذا المعنى بالعبارة الشهيرة التي تتردد في قصص التراث العربيّ، مثل قصص ” ألف ليلة وليلة”: ” يا غلام! أعطهِ ألفَ دينار.” ووريثُ هذا المعنى المُمات لكلمة (غلام) معنى (خادم) الذي تورده المعاجم. ولو قرأتُ الترجمة (ب) التي ورد فيها ” كان له غلام يعينه على أمره” ولم أكن أعرف القصة وسياقها، لفهمتُ ” كان له خادمٌ يعينه على أمره.”.

ولكلمة (غلام) معنى رابع، يرتبط باللواط أو الشذوذ الجنسيّ وبقضية (الغزل بالغلمان) في الشعر العربيّ، خاصّةً في عصر الانحطاط بعد سقوط بغداد سنة 656هـ/1258م.

إذن لكلمة (غلام) معانٍ ذات أثر نفسيّ سلبيّ، ولهذا يبدو أنّ العرب نقلوا كلمة أخرى من معنى (رضيع) ورفعوها لتكون بديلاً لكلمة (غلام)، تحاشياً للمعاني السلبيّة أو تفادياً لسوء الفهم. والكلمة التي ارتفعت منزلتها، هي (صبيّ) التي كانت تدلّ في العهد الجاهليّ وصدر الإسلام على (الرضيع). فعندما يفخر عمرو بن كلثوم يقول:

إذا بلغَ الفطامَ لنا صبيٌّ تخرُّ لهُ الجبابرُ ساجدينا

وورد في القرآن الكريم:

﴿قالوا كيفَ نكلِّمُ مَن كانَ في المَهدِ صبيّاً﴾ (سورة مريم: 29).

وتحوُّلُ معنى (صبي) من (رضيع) إلى (غلام) يُسمى في علم الدلالة بـ (رُقيّ الدلالة) أي أنّ اللفظ يكتسب بالاستعمال معنىً أرقى من معناه الأصلي. إذ أصبح (صبيّ) يعني (ولدٌ أكبر من الرضيع وأصغر من الفتى). ورقيّ الدلالة هذا هو السبب في حصول الترادف بين (صبي) و(غلام).

ثم اكتسبت كلمة (صبيّ) معنى جديداً هو (الغلام الذي يتعلّم المهنة مع معلِّم). يقول الرئيس ابن سينا ( ت 428هـ/ 1037م) في كتابه ” السِّياسة”:

” ينبغي لمدبِّر الصبيّ إذا رام اختيار صناعة أن يزن أولاً طبع الصبيّ، ويسبر قريحته، ويختبر ذكاءه، فيختار له من الصناعات بحسب ذلك.”(15)

فعلى الرغم من أنّ العربيّة ليست لغة أُمّ للرئيس ابن سينا، فإنّه يستعمل اللفظ الدقيق الصحيح (صبيّ) مرّتين ولا يستعمل مرادفه (غلام).

وخلاصة القول: إنّ مَن يتعلّم مهنة ما مع معلِّم هو (صبيّ) وليس (غلاماً). وهذا ما أثبتُّهُ في ترجمتي (ج) بعكس الترجمتين (أ) و(ب) اللتين استعملتا كلمة (غلام).

الفروق مفهوميّة أكثر منها لفظيّة:

قد يقول القارئ الكريم إنّ هذه الاختلافات مجرّد فروق لفظيّة أو تفضيل مرادف على آخر. وأنا أعتقد أنّها فروق مفهوميّة، لأنّ الألفاظ تشير إلى مفاهيم في الذهن وليس إلى أشياء في الوجود. فعندما نتحدّث عن فوائد “السيّارة”، مثلاً، فنحن لا نقصد سيارة معيّنة ذات صنع محدّد ولون مخصَّص وشكل مقيّد، لها كيان مادّيّ في الشارع، وإنّما نشير بكلمة “السيّارة” إلى صورة ترتسم في الذهن استُخلصت خصائصها الجوهريّة من جميع أنواع السيارات في مختلف أشكالها وأنواعها وألوانها وشركات صنعها.

في إمكاني أن أسوق عشرات الأمثلة على اختلافات في المفاهيم بين ترجمتي (ج) والترجمتين (أ) و(ب). ولكنني، لئلا أُثقِل على القارئ سأكتفي بمثال واحد.

ورد في القصة أن الصيّاد الشيخ شاهدَ طائراً بحرياً اسمه a man- of- war bird طويل الجناحَين، يحلّق على بقعة في البحر، ثم يُسِفُّ ليصطاد السمكات الطائرة، فيُدرك الشيخُ آنئذٍ وجود سمكة كبيرة أو أكثر في تلك البقعة ولهذا تهرب الأسماك الطائرة منها وتنطّ في الهواء.

تسمّي الترجمة (أ) و الترجمة (ب) هذا الطائر (نِسراً)، على حين أن هذا الطائر لا علاقة له، على الإطلاق، بفصيلة النسريات ولا بفصيلة الصقريات. يسمى هذا الطائر بالإنجليزية كذلك The frigate-bird وبالعربية ” الفرقاط” أو الطائر البارجة” وهو من فصيلة ” الفرقاطيات” Fregatidae . وكثيراً ما يُرى هذا الطائر صافاً جناحيه أو منزلقاً على تيارات الهواء فوق الشواطئ أو البِحار، وله جناحان طويلان يبسطهما عند الصفّ. ويستطيع أن يصيد وهو طائر في الجو، إمّا منقضّاً ليلتقط سمكة من البحر، وإما بالقرصنة ومهاجمة الطيور البحرية الأخرى وإرغامها على ترك فرائسها أو إخراجها من حلوقها ليتغذى بها هو. يعيش هذا الطائر على امتداد شواطئ أمريكا الوسطى، وجنوب البرازيل، وشرقي أفريقيا، وجنوب شرقي آسيا، وشمال أستراليا، وجزائر المحيطين الهادي والأطلنطي، وكذلك المحيط الهندي (16) .

وحتّى إذا أراد المترجم أن يطلق اسم ( نسر ) أو (طير كاسر) على هذا الطائر لتيسير الفهم للقارئ العربي، فإنّ ذلك خطأ مفهومي، لأنّ ” الطير الكاسر” هو جنس عامّ لأنواع متعدّدة من الطيور، تختلف في خصائصها الذاتيّة وسلوكها وأماكن عملها، ولأنّ النسر لا يصيد مطلقاً بل يتغذى على الجيف. ولهذا ينبغي أوّلاً أن نطّلع على تصنيف الطيور الجارحة كما يحدّده علماء الأحياء ونختار اسم النوع المناسب. وتدلّنا الدراسة المتأنيّة لشجرة أهمّ الطيور الكواسر على ما يأتي:
الطيور الكواسر
النسر الصقر
(يتغذى على الجيف، لا يهاجم الحيوان الحيّ) (يُستخدَم في الصيد، يهاجم الحيوان الحيّ)
البازي الشاهين
(جناحاه قصيران، ويميل ذنبه ورجلاه إلى الطول) (جناحاه طويلان)
العُقاب الباشق البيدق الشاهين البحري

ولمّا كان الطائر البحريّ في قصة “الشيخ والبحر” ذا جناحَين طويلَين ويهاجم بضراوة السمكات الطائرة محاولاً اصطيادها وأكلها، فإنّه لا يمكن أن يكون نسراً، لأنّ النسر ليس طائراً بحرياً ولا يَصطاد، بل يتغذّى على الجيف. وحتّى إذا استعملت إحدى الترجمات مصطلح (نسر بحريّ)، فإنّها جانبت الصحّة في التسمية مرّتَين، لأنّ ذلك الطائر ليس نسراً، ولأنّه لا يوجد نسر بحريّ على الإطلاق، فالنسور ليست من الطيور البحريّة، كما ذكرنا. وهواة الصيد الكبار يعرفون أن الطيور الكواسر التي تصيد هي من الصقريات. ويحدثنا الأمير أسامة بن منقذ ( 488ـ 584هـ/1095 ـ 1188م) في سيرته الذاتية ” كتاب الاعتبار” أنهم كانوا يصيدون في البحر بالشياهين البحرية (17).

الفروق في بنية الجملة:
الأمثلة التي ضربناها سابقاً تتناول الجانب الدلاليّ والمفهوميّ في الترجمات الثلاث. ولكنّ الفروق بين هذه الترجمات لا تقتصر على ذلك الجانب فقط بل تمسّ كذلك الجانب التركيبيّ للجملة ونظمها. لنأخذ عبارتَين إنجليزيّتين من القصّة تشتملان على عدد من الصفات، وننظر كيف رُتِّبت هذه الصفات بالترجمات العربيّة الثلاث:

(a) “ … a bird with his long black wings…
(b) “ … the coast was only a long green line…”
(لاحظ أن النصّ الإنجليزي وضع صفة الطول أولاً، ثم صفة اللون ثانياً.)

في الترجمة (أ) نجد العبارتين على الوجه التالي:

(a) طائر ” ذي جناحين طويلين سوداوين ..” (والصحيح ” أسودان”، لأن الجناح مذكَّر).
(b) لم يبقَ من الشاطئ ” غير خط طويل أخضر..”

(أي أن المُترجِم العربيّ اتّبع ترتيب الصفات كما هي بالإنكليزيّة: صفة الطول أوّلاً، ثم صفة اللون ثانياً).

وفي الترجمة (ب) نجد العبارتين على الوجه التالي:

(a) طائر “… جناحيه الأسودين..” (أسقطت هذه الترجمة صفة الطول)
(b) … الشاطئ ” شريط طويل مخضوضر..”

( أي أنّ المترجم الكريم اتّبع كذلك نفس ترتيب الصفات بالإنكليزيّة: صفة الطول أوّلاً، ثم صفة اللون ثانياً).

في ترجمتي (ج) وردت العبارتان على الوجه الآتي:

(a) طائر ” بجناحيه الأسودين الطويلين..”
(b) الشاطئ ” خط أخضر طويل ..”

( هنا نجد صفة اللون أوّلاً ثم صفة الطول ثانياً. أي أن ترتيب الصفات في ترجمتي جاء بعكس ترتيبها في النصّ الإنكليزي الأصليّ، وطبعاً بعكس ترتيبها في الترجمتَين الأُخرَيَين اللتين اتبعتا نفس الترتيب الإنكليزيّ).

لماذا؟ وما هو الفرق ؟

تتعلّق هذه القضية بترتيب الصفات التي تصِف الاسم، وهو ترتيب قد يختلف من لغة إلى أخرى. أوّل من درس ظاهرة ترتيب الصفات في العبارة التي تُنطَق بصورة طبيعية اعتياديّة باللغة الإنكليزيّة هو أستاذنا الدكتور آرتشبولد هيل (A.A.Hill) الذي قسّم الصفات الإنكليزيّة إلى ستة أصناف وخصص رقماً لكلّ صنف منها طبقاً لقُربه أو بُعده من الاسم، وعبارته النموذجيّة هي:

All the ten fine old stone houses.
الاسم 1 2 3 4 5 6
ووضع القاعدة التالية :
” تنتمي الكلمات إلى الصنف الترتيبيّ نفسه إذا كنا نستطيع تعويض إحداها بالأخرى من غير أن يؤثّر ذلك في هيكل العبارة وصحّتها. وتنتمي الكلمات إلى صنفَين ترتيبيَّين مختلفَين إذا كانتا تردان في تعاقب ثابت.”(18)

ثمة ترتيب للصفات في اللغة العربيّة كذلك، ولكن لا توجد دراسات لسانيّة حول الموضوع ـ على ما أعلم ـ ما عدا دراسة يتيمة للباحثة المغربيّة نادية عمري بعنوان ” ترتيب الصفات في اللغة العربية” (19)

وبعد أن قامت هذه الباحثة باستقصاءٍ وبحثٍ في مختلف الكتابات العربيّة، تخلُص إلى أنّ “الصفات العربيّة المنسوبة تتسلسل في ترتيب معكوس لما توجد عليه الصفات الإنجليزيّة”(20)
مثل:
ـ الكتب الصفراء القديمة. (لون < نعت)
ـ السيارة الإيطالية السوداء. (جنسية < لون)
ـ المزهرية الصينية الصغيرة الجميلة. ( جنسية < حجم < نعت)
ـ الطاولة المستديرة الصغيرة. (شكل < حجم)

وتضع الباحثة القاعدة التالية لترتيب الصفات في اللغة العربيّة:

(الاسم ، 1 صفة جنسيّة< 2 صفة لون< 3 صفة شكل< 4 صفة حجم< 5 صفة نعت)
مثل:
المزهريّة المصريّة الزرقاء المدوّرة الصغيرة الجميلة.
1 2 3 4 5

وخلاصة القول إنّ الترجمتين (أ) و (ب) اتّبعتا ترتيب الصفات كما هو في النصّ الإنكليزي لقصة ” الشيخ والبحر” في جميع المواضع التي ترد فيها عبارات ذات صفات متعدّدة. وهذا الترتيب مخالف لترتيب الصفات في العبارة العربيّة عندما ننطقها بتنغيمها الاعتياديّ. وإذا أردنا أن نغيّر في ترتيب الصفات لأسباب بلاغيّة، فإننا نضطر حينذاك إلى تغيير التنغيم ومواضع النبر على الكلمات.

فروق صرفية:
يقسّم بعض اللسانيّين ألفاظ اللغة إلى صنفَين: ألفاظ معجميّة وألفاظ بنيويّة. وتنتمي ألفاظ الصنف الأول إلى دائرة مفتوحة بحيث ينمو عددها باستمرار وسهولة في مدّة زمنيّة قصيرة، على حين تنتمي ألفاظ الصنف الثاني إلى دائرة مغلقة بحيث تمتاز بقلة عددها كما يصعب زيادتها أو تغييرها. ومن أمثلة الصنف الأول أسماء الموجودات والأشياء والأدوات مثل: كتاب، كرسي، سيارة، صاروخ، إلخ. ومن أمثلة الصنف الثاني الضمائر المنفصلة والمتّصلة (أنا، أنت، هو، هي، إلخ.)، وحروف الجر (في، من، على، إلى، إلخ.)

وفي عملية الاقتراض اللغوي، تستعير اللغات، عادةً، الألفاظ التي تنقصها من لغة أخرى. وهذه الألفاظ المقترَضة هي من الصنف الأوّل كألفاظ المفاهيم المستحدَثة والمخترعات الجديدة، وقلّما تستعير لغةٌ من لغةٍ أخرى الأدواتِ الصرفيةَ والبنيوية. ومن الأمثلة النادرة على استعارة الأدوات الصرفية استعارة بعض لغات الشعوب الإسلاميّة أداة التثنية من اللغة العربيّة. فحركة (طالبان) في أفغانستان اكتسبت اسمها من لفظ (طالب) العلوم الدينيّة الذي اقترضته لغة البشتو من العربيّة، واقترضت في الوقت نفسه علامة التثنية في حالة الرفع (ـان) واعتبرتها علامة الجمع. لأنّ لغة البشتو من اللغات الهندوأوربيّة التي لا تعرف المثنّى، بل تقتصر على المفرد والجمع، وتعدّ كل ما زاد على واحد جمعاً. وهكذا عندما أراد الناطقون بالبشتو أن يقولوا : طلاب، قالوا(طالبان) مقترضين علامة المثنى في حالة الرفع ليدل على الجمع، لأنّ لغتهم ليست إعرابية ولا تفرّق بين اللفظ في حالة الرفع أو النصب أو الجر. وحصل الأمر ذاته في اللغة التركيّة عندما أسست الدولة العثمانيّة في أواخر أيامها مجلس نواب شبه معيّن وأسمته(مجلس المبعوثان)، ومعناه مجلس المبعوثين من الأقاليم إلى العاصمة الأستانة.

وإذا كنا نترجم من اللغة الإنجليزيّة أو الإسبانيّة اسم العملة في أمريكا أو إسبانيا، مثلاً، فإنّنا نقترض اللفظ نفسه، ولكننا لا نقترض علامة الجمع لأنها موجودة في اللغة العربية. فنترجم
(dollar) بـ دولار
(two dollars) بـ دولاران/ دولارين
(three dollars) بـ ثلاثة دولارات

وإذا عدنا إلى قصة (الشيخ والبحر) نجد فيها أنّ الشيخ، بعد أن ربط السمكة الضخمة التي اصطادها بقاربه وأبحر عائداً إلى منزله، فوجئ بعد ساعتين برؤية قرشين في البحر قادمان نحوه، وهما من نوع الغلانو، الذي يقتات على الأسماك، فصرخ بألم:
- “ Galanos”
وفي الترجمتين العربيتين (أ) و (ب) نجد الترجمة التالية:
ـ ” غلانوس”
وهذا يعني أنهما لم يقترضا اسم نوع القرش فحسب، بل اقترضا علامة الجمع كذلك (s )، كما لو ترجمتا (three dollars) بـ (ثلاثة دولارس). كان من المفروض أن تكون الترجمة : (غلانوان). والسياق يساعد في تبيان المعنى، لأن الشيخ رأى القرش الأوّل ثم رأى زعنفة القرش الثاني وكلاهما من نوع غلانو، فصرخ (غلانوان).
الإضافات المسموح بها للمترجم:

من المتعارف عليه بين المترجِمين أنّ للمترجِم الحقّ في إضافة كلمة هنا وكلمة هناك، ليجعل النصّ المُترجَم مقروءاً ومفهوماً ومنسجماً مع أساليب اللغة المُترجَم إليها. بيدَ أنّ هنالك شَرطَين لذلك:

أولاً، أن لا تؤدّي إضافة المُترجِم إلى تغيير المضمون الأصليّ أو إضافة معلومة لم تكن موجودة في الأصل.
ثانياً، أن لا تغيّر إضافة المترجِم من ملامح أسلوب المؤلِّف الأصليّ أو تفسد تقنيّاته.

لنأخذ مثلَين من الترجمات الثلاث التي نقوم بمقارنتها:

(1)المثل الأوّل:
ينجذب خيط الصيّاد الشيخ جذبة واحدة، ثم لا شيء بعد ذلك. فيقدّر الصيّاد الشيخ أنّ سمكة أرادت أن تأكل الطُّعم المُثبّت في رأس الشصّ، ولكنّها غيّرت رأيها وابتعدت عنه، ويقول:
“Maybe he has been hooked before and he remembers something of it.”

الترجمة (أ) :
“لعلها ازدردت شصّاً من قبل فهي لا تزال تذكر شيئاً من الألم الذي أَورثها إيّاه.”

الترجمة (ب):
” لعلها كابدت خطافاً كهذا من قبل، فأخذت عِبرة من الماضي ودرساً.”

ترجمتي (ج):
” لعلّها عُلِقتْ بشصّ من قبل وتتذكّر شيئاً من ذلك.”

لاحظ أن الترجمة (أ) ـ وقد أبدعها أديب ومترجم عملاق ـ متينة السبك، رفيعة اللغة؛ وفيها إضافتان إلى النصّ الأصليّ:
الإضافة الأولى: ” فهي لا تزال”. وهي إضافة مقبولة، في نظري، تحسّن من بلاغة النصّ وتوضّح معناه. وهي من نوع الإضافات التي ينبغي أن يسعى إلى إتقانها المُترجِم الجيّد.
الإضافة الثانية: ” الألم الذي أورثها إياه.”. وهي عبارة تتضمّن استعارة جميلة وتفسّر ما كان المؤلِّف الأصليّ يقصده بقوله ” شيئاً من ذلك.”. ولكنّ همنغواي يريد أن يقوم القارئ، لا المترجم، بالتفسير، من أجل زيادة متعة القراءة ومشاركة القارئ في الإبداع. وهذه الإضافة تجعل النصّ المُترجَم ينتمي إلى الأساليب السرديّة السابقة لهمنغواي التي تفضّل التصريح على التلميح، والتي سعى همنغواي إلى تغييرها.

وتضمّنت الترجمة (ب) إضافتين، كذلك، على النصّ الأصليّ:
الإضافة الأولى: كلمة ” كهذا” وهي إضافة لا ضرورة لها، لأنّ تعبير ” من قَبل” يغني عنها.
الإضافة الثانية: عبارة ” فأخذت عبرة من الماضي ودرساً”. وهي، في نظري، تأويل وليست شرحاً أو تفسيراً. ويطمح أيّ كاتب روائيّ معاصر أن يتولّى القارئُ، لا المُترجِم، التأويلَ.

أما ترجمتي (ج) فلم ترِد فيها أيّة إضافة كانت، بل حافظت حتّى على صيغ الأفعال في النصّ الأصليّ، مثل صيغة المبنيّ للمجهول “عُلِقت بشص”. فتبدو كأنّها ترجمة حرفيّة. وعلاوة على ذلك، فهي لا تتحلّى ببلاغة الترجمة (أ). وهدفي هو المحافظة على أسلوب همنغواي السهل الممتنع، وصيانة تقنيّاته السرديّة، والاقتصاد في اللغة. وهذه بعض المزايا التي أهّلت هذا النصّ القصير لهمنغواي للفوز بجائزة نوبل.

(2)المثل الثاني:
ورد في النصّ الإنكليزيّ للقصّة ما يأتي:

“ This far out, he must be huge in this month, he thought. Eat them, fish. Eat them. Please eat them.”

الترجمة (أ):
” وفكّر الشيخ: ما دمتُ في مثل هذا الشهر، وعلى هذا البُعد عن الساحل، فليس من ريبٍ في أنها سمكة ضخمة جداً. ثم أنشأً يخاطب السمكة قائلاً:
ـ : كُلي هذه الأطعام، أيتها السمكة، كليها! أرجوك أن تأكليها.”

الترجمة (ب):
” وجعل يتكلم: عند هذا العمق، لا بد أن يكون حلق السمكة ضخماً. كُلي، أيتها السمكة. كُلي الطعام كله.”

ترجمتي (ج):
” وفكّر: على هذا البُعد، وفي هذا الشهر، لا بُدّ أن تكون السمكة ضخمة جداً. كُلي الطُّعم، أيّتها السمكة. أرجوكِ أن تأكليه.”

لاحظ أنّ في الترجمة (أ) ثلاث زيادات على النصّ الأصليّ هي: ” الشيخ” و ” ما دُمتُ” و ” ثم أنشاً يخاطب السمكة قائلاً:” . وكلّها إضافات توضيحيّة تقرّب النصّ من فهْم القارئ. وإذا كنتُ أستسيغ إضافة ” الشيخ” وأُعجَب بإضافة ” ما دمتُ”، فإنّني أجد في إضافة ” ثم أنشأ يخاطب السمكة قائلاً” خروجاً عن النصّ، وإفساداً لتقنية من تقنيّات همنغواي يمكن أن نصفها بـ ” الانتقال من التفكير إلى التعبير” دون مقدِّمات ومن غير أن يضيف فعل القول. وقد استخدمها همنغواي بذكاء ودراية. فبينما كان الصيّاد يفكّر بضخامة السمكة التي لم يرَها بعد، جعلته هذه الفكرة، يتعجّل في رجاء السمكة أن تأكل الطُّعم، يتلهّف لهذه النتيجة. فلا وقت لدى همنغواي وهو منكبّ على كتابة النصّ، متفاعل معه، منفعل به، أن يضيف: “ثم أنشأ الصياد يخاطب السمكة قائلاً”، بل دخل في الخطاب مباشرةً. التعبير يعقب التفكير. وبعد هذا وذاك، فإنّ هذه الإضافة لا مُبرر لها أبداً، لأنّ النصّ واضح من عبارة: ” أيتها السمكة”، وليس هنالك سوى الصياد والسمكة.

أذكر أنّني كنتُ، ذات يوم، أكتبُ قصّةً عن أستاذ جامعيّ، ذي تربية متديّنة، التقى بفتاة جميلة جداً بادرت إلى مساعدته في حمل كُتبه، وأُعجِب بها كثيراً، وكان في حاجة لمبادلتها المودّة والصداقة ولكنه شكَّ في كونها مومِساً، فانتابه صراع نفسيّ. وفجأة، وأنا أكتب القصّة، وجدتني أخاطب والدي: ” لماذا فعلتَ بي ذلك، يا أبي؟ أَلَمْ تعلم أنّ الدنيا مليئة بالكذّابين والمخمورين والفاسقين والذئاب؟ لماذا فعلتَ بي ذلك، يا أبي، وأنتَ تعلم أنّي أُحبّكَ وأنتَ تحبُّني، ولكنّي أحبّكَ أكثر ممّا تحبّني، لأنّ لكَ أولاداً آخرين وأنا لا أبَ لي سواك.”(21)
فلو تبرّع مترجم بإضافة جملة (ثم أنشأ يخاطب أباه قائلاً التوضيحية التي تقطع صلة التفكير بالتعبير في قصتي هذه، لما قبلتُ ترجمته.

إنّ إضافة عبارة ( ثم أنشأ يخاطب السمكة قائلاً) في هذه الترجمة تُذكّرني بملحمة “جلجامش” السومريّة. فالتقاليد الكتابيّة التي كانت سائدة في الأدب السومريّ، كانت تقدِّم لكلّ قول من أقوال جلجامش (أو أيّة شخصيّة أُخرى في الملحمة) بعبارة: ” وفتح جلجامش فاه ثم قال:” التي تبدو لنا اليوم تحصيل حاصل، فكيف يتكلّم الإنسان من غير أن يفتح فمه؟

في الترجمة (ب)، نجد زيادة غريبة هي: ” لا بدّ أن يكون حلق السمكة ضخماً”. فالنصّ الأصليّ لا يذكر ” حلق السمكة” مطلقاً. ولا يمكن أن تُعدّ هذه الزيادةُ إضافةً بلاغيّة ولا توضيحيّة. إذن ما الذي حصل؟ لا يمكن تعليل ذلك إلا بأحد أمرين:

الأوّل، احتمال وقوع خطأ مطبعي في النصّ الإنكليزيّ، فظهرت كلمة (mouth فم) بدلاً من (month شهر). وهذا يدعو المترجمين إلى اقتناء طبعة جيّدة للنصّ الأصليّ من ناشر معروف، إذا كان للنصّ عدّة طبعات.

الثاني، احتمال إصابة المُترجِم بالإرهاق لدرجة أنّه قرأ (mouth) بدلاً من (month). ولتفادي وقوع مثل هذه الأخطاء، ينبغي مراجعة الترجمة ومقابلتها مع النصّ الأصليّ من قبل المترجِم نفسه أو من لدن مُراجِع خارجيّ.

في ترجمتي (ج)، لا توجد أية إضافات. هنالك تقديم عبارة ” في هذا الشهر” الذي اقتضاه وضوح النصّ، وهناك استعمال المفرد (طُعْم) بدلاً من الجمع الذي ورد في النصّ الأصلي (طعوم) أو (أطعام)، لأنّ الجمع نادر الاستعمال في اللغة العربيّة.

تغيير الصيغ الأصليّة في الترجمة:

هل يستطيع المترجِم أن يغيّر الصيغ الواردة في النصّ الأصليّ، مثل المفرد والجمع، الفاعليّة والمفعوليّة، المبنيّ للمجهول والمبنيّ للمعلوم، المذكّر والمؤنّث، المخاطَب والمتكلّم، إلخ.؟

طبعاً، يستطيع المترجِم أن يغيّر بعض الصيغ الأصليّة، لأنّ لكلّ لغة خصائصها الصرفيّة والأسلوبيّة. فقد يكون اللفظ مُذكَّراً في لغة ما ومقابله مؤنّثاً في لغة أخرى والعكس بالعكس، مثل لفظ ” السمكة ” المؤنّث في العربيّة، على حين يُشار إلى مقابله في الإنجليزية (Fish) بضمير المُذكَّر (He)، ومثل لفظ ” القمر” المُذكَّر في العربيّة ومقابله La Lune مؤنّث في الفرنسيّة،. وقد تُفضِّل أساليبُ لغةٍ ما صيغةَ المبنيّ للمعلوم على حين تفضّل أساليبُ لغةٍ أُخرى المبنيَّ للمجهول.

ولكن ينبغي أن لا يغيّر المترجِم صيغةً من الصيغ كان المؤلِّف الأصليّ قد استعملها عن قصد، أو استخدمها بمثابة تقنيّة سرديّة. ومن الأمثلة على ذلك تقنية همنغواي في استعمال ضمير المخاطب لإشراك القارئ في الموضوع وإثارة اهتمامه، كما يستعمل بعضُ الكُتّاب في العربيّة ضمير المتكلمين (ـ نا)، لإشراك القارئ ، فيقول: لننظر الآن في المثال التالي من قصة “الشيخ والبحر” :

“ He did not say that because he knew that if you said a good thing it might not happen.”
الترجمة (أ):
” ولم يقل ذلك، لأنه كان يعلم أنّ المرء إذا عبّر عن فرحه باقتراب النصر فقد لا يرى وجه النصر أبداً.”

الترجمة (ب):
” ولكنه لم يقُله. لأنّه كان ممن يعتقدون أنّ الإنسان إذا ثرثر عن خير مُقبل عليه، فقد لا يُقبل الخير أبداً.”

ترجمتي (ج):
” لم يقُل ذلك، لأنّه كان يعلم أنّكَ إذا نطقتَ بشيءٍ حَسَنٍ تتمناه، فإنّه قد لا يحصل.”

نقلت الترجمتان (أ) و (ب) معنى النصّ الأصلي بشيء من التصرُّف وبشيء من التفسير والتوضيح؛ ولكنّهما لم تحافظا على ضمير المخاطب أو الشخص الثاني الذي استعمله المؤلّف الأصليّ في ” أنّكَ…” وغيّراه إلى الشخص الثالث ” أن المرء … ” أو ” أن الإنسان…”، لأنّ أسلوب استعمال ضمير المخاطب ليس معتاداً في السرد العربيّ. والذي أثار حيرتي أنّ كلتا الترجمتَين استعملت كلمة ” أبداً” التي ليست موجودة في النصّ الأصليّ، والتي تتناقض مع معنى “قد” في عبارة ” قد لا يرى وجه النصر أبداً ” أو ” قد لا يُقبل الخير أبداً”. فنحن نعلم أنّ “قد” تفيد مع الفعل الماضي التحقيق، ومع المضارع التقليل والاحتمال، في حين أن ” أبداً” هي ظرف زمان تفيد الاستمرار المؤكَّد، مثل ” لن أفعله أبداً” أي لن أفعله مدى الدهر. أما عبارة ” قد لا يحصل ” فتعني: قليلاً ما يحصل، أو: قد يحصل أو لا يحصل. فكيف نضع “أبداً” بعدها التي تعني الاستمرار المؤكَّد في عدم الحصول؟!

أما ترجمتي (ج)، فتكاد تكون حرفيّة، ولم تُضف إلا كلمة واحدة هي ” تتمناه” لتوضيح المعنى.

خلاصة

أستطيع الاستمرار في ضرب الأمثلة المقارنة التي تبيّن كيف أن الترجمات العربية السابقة لقصة ” الشيخ والبحر” لهمنغواي لم تنقل مضامين القصة بدقة، وكيف أنها أغفلت أسلوب همنغواي وتقنياته السردية؛ وأنني أقدمتُ على إعادة ترجمة القصة لا لزيادة متعتي في قراءتها والاستفادة من تقنياتها فحسب، وإنّما لأنقلها إلى القارئ العربي بطريقتي الخاصة التي استثمرُ فيها جميع معرفتي بهمنغواي، ولغته، وأسلوبه، وتقنياته، من أجل أن تصبح الترجمة جسراً لا لعبور المضامين فحسب وإنّما لعبور الأساليب والتقنيات والنفسيات كذلك.

الهوامش:

(1) أرنست همنجواي، وليمة متنقلة، ترجمة: علي القاسمي ( القاهرة: دار ميريت، 2006) الطبعة الثالثة، ص 40.(2) نُقل قوله على الغلاف الخلفي من طبعةErnest Hemingway. The Old Man and the Sea (London: Arrow Books Limited,1993)(3) كتاب Roland Barthes ; Le Degré Zéro de l’écriture (Paris: Seuil, 1953)            ترجمة محمد برادة: الدرجة الصفر للكتابة (الرباط: الشركة المغربية للناشرين المتحدين، ط3، 1985)(4) وليمة متنقلة، ص 165.(5) وليمة متنقلة، ص 97.(6) وليمة متنقلة، ص 116(7) علي القاسمي، مرافئ على الشاطئ الآخر: روائع القصص الأمريكية المعاصرة (بيروت: إفريقيا الشرق، 2003)(8) أرنست همنغواي، الشيخ والبحر، ترجمة منير بعلبكي (بيروت: دار العلم للملايين) استخدمنا طبعة تشرين الثاني/نوفمبر 1992.(9) أرنست همنجواي، الشيخ والبحر، ترجمة د. زياد زكريا (بيروت: دار الشرق العربي، ب ت)  (10) علي القاسمي (المُنسِّق) وآخرون، المعجم العربي الأساسي (تونس/باريس: الألكسو/لاروس، 1989).(11)  دونياك وآخرون، معجم أكسفورد، إنجليزي ـ عربي، (لندن، أكسفورد، 1969).(12) منير بعلبكي ، معجم المورد، إنجليزي ـ عربي ( بيروت: دار العلم للملايين، 1969)(13) مكتب تنسيق التعريب، المعجم الموحد لمصطلحات الجغرافية (الرباط: مكتب تنسيق التعريب، 1994).(14) مجمع اللغة العربية بالقاهرة، المعجم الوسيط ( القاهرة : مجمع اللغة العربية، 1960).(15) نقلاً عن : علي القاسمي، معجم الاستشهادات (لبنان: مكتبة لبنان ناشرون، 2001).(16) عن الدكتور عبد الحافظ حلمي محمد ، عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة وأستاذ علم الأحياء في كلية العلوم بجامعة عين شمس. وانظر كذلك:- Colin Harison and Alan Green Smith, Birds of the World (London: Dorling, 1993)(17) أسامة بن منقذ، كتاب الاعتبار، تحقيق فيليب حتي (القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية، ب ت). (18) علي القاسمي، علم اللغة وصناعة المعجم ( بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، 2004) الطبعة الثالثة، ص 85.(19) نادية عمري ” ترتيب الصفات في اللغة العربية ” في مجلة ” أبحاث لسانية“ الرباط، مجلد 9، عدد 2 (ديسمبر 2004) ص 9ـ80.(20) المرجع السابق، ص 45.  ولكن لو نظرت الباحثة الفاضلة إلى الترتيب من حيث قُربه وبُعده من الاسم الموصوف لوجدت أن العربية والإنكليزية متفقتان في الترتيب. (21) علي القاسمي، دوائر الأحزان، قصص قصيرة (القاهرة: دار ميريت، 2005)، قصة التفاحة المحرمة، ص 19ـ26.

_________________
التوقيع
صورة
يقول ابن القيم رحمه الله: لو أن رجلا وقف أمام جبل و عزم أن يزيله لأزاله


أعلى .:. أسفل
 يشاهد الملف الشخصي  
 
إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ مشاركة واحده ] 

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين [ DST ]


لا تستطيع كتابة مواضيع جديدة في هذا المنتدى
لا تستطيع كتابة ردود في هذا المنتدى
لا تستطيع تعديل مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع حذف مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع إرفاق ملف في هذا المنتدى

البحث عن:
الانتقال الى:  
cron

جميع الحقوق محفوظة لـ ©2012Art-En.com . تصميم بواسطة Art-En . راسلنا . سياسة الخصوصية . قوانين المنتدى
Powered by phpBB© . Translated by phpBBArabia