الصهيونية الثقافية استند المشروع الصهيوني الاستعماري المتمثل بتأسيس "دولة يهودية" على أرض فلسطين العربية على سلسلة من المحاور والأسس المترابطة, والتي سأتناول بعضها تباعا وباختصار في المستقبل لإلقاء الضوء على طبيعة المشروع الصهيوني مقدمة لتقديم تصور لطبيعة الصراع معه. هذه المحاور هي الصهيونية الثقافية, والتي سأزعم أنها الأهم والحلقة المركزية في المشروع, الصهيونية الاقتصادية, الصهيونية الايكولوجية, والصهيونية السياسية. سأستنتج لاحقا, وبناء على النقاش المختصر لبعض هذه المحاور, أن المشروع الصهيوني غير قابل للاستدامة لأسباب سياسية, واقتصادية, وبيئية, وثقافية, ولا يمكن التعايش معه لكون هذه المحاور لا يمكن أن تنتج إلا كيانا عدوانيا. هذه مقدمة للمرحلة الأولى للصهيونية الثقافية فقط. المراحل الأخرى والتي تميز كل منها بإعادة تعريف لمفاهيم ثقافية صهيونية أساسية, وحتى إعادة تعريف لفكرة "إسرائيل" ذاتها بما يتناسب وتحولات المشروع الاستعماري, ستأتي لاحقا. الاستعمار الاستيطاني النقي تميز أدبيات الاستعمار المقارن, عادة بين نوعين من الاستعمار. الأول, هو الاستعمار المتروبولي, أو المرتبط بالمركز الاستعماري في البلد الأم, الذي لا يتضمن انتقال عدد كبير من السكان للإقامة الدائمة في المستعمرة ويتميز بالسيطرة عبر سلطة كولونيالية ويشكل أحد ديناميات الإمبريالية, أو إقامة الإمبراطورية, كما كانت حال الاستعمار الإنجليزي في الهند. النموذج الثاني, الاستعمار الاستيطاني, ويتميز, على العكس, بانتقال المستعمرين بأعداد كبيرة للسكن الدائم في المستعمرة وتأسيس وطن على طراز الوطن الأوروبي الأم. هذا النوع ينقسم بدوره إلى ثلاثة أنواع هي: المستوطنة المختلطة, المستوطنة الزراعية, والمستوطنة النقية. ما يميز النوعين الأولين هو استيطان الأرض فقط, واستغلال اليد العاملة المحلية (في حالة المستوطنة المختلطة) أو استيراد اليد العاملة (في حالة المستوطنة الزراعية). وحدها المستوطنة الاستعمارية النقية, كما هي حال "إسرائيل", تستوطن الأرض والعمل معا, وبالتالي فإن بنيتها تتضمن رفضا وإلغاء لوجود السكان الأصليين بطردهم من الحياة الاقتصادية حتى من مجال الأيدي العاملة التي يمكن استغلالها. والخطاب الصهيوني (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض) أفرغ فلسطين من أهلها مجازيا أولا واخترع أرضا بلا شعب ليؤسس للإبادة والتطهير العرقي الحقيقي لاحقا. فهذا الخطاب لم يكن محض دعاية, بل أسست له بنية ثقافية استعمارية ارتبطت جدليا بالسياسة والممارسة الصهيونية. ولم يكن إفراغ فلسطين من أهلها في الخطاب الصهيوني بسبب جهل في الجغرافيا والتاريخ, أو بسبب حاجة دعائية فقط, بل بسبب العنصرية المتأصلة في الصهيونية التي أنكرت أساسا إنسانية العربي الفلسطيني ووجوده وثقافته لتفسح الطريق أمام القتل والتشريد المستمرين حتى اليوم.
الأعمال الأولى المهمة الثقافية التي واجهت الحركة الصهيونية ومؤسساتها الأكاديمية لاحقا, والتي تمثلت باختراع رواية وذاكرة, إنسان, لغة, وعي جمعي, فكرة وجغرافيا وطن, وفي نفس الوقت إلغاء فلسطين والفلسطينيين, كانت جسيمة لسبب أساسي وتاريخي وهو غياب فلسطين شبه المطلق عن التأريخ اليهودي والدراسات اليهودية التي اهتمت حتى تأسيس الحركة الصهيونية بالشؤون اليهودية في أوروبا فقط. ففي حين أنه حتى القرن السابع عشر لم تذكر فلسطين سوى في دراستين يهوديتين, كان على هذه المؤسسات الأكاديمية أن تختزل وتحول كل تاريخ فلسطين إلى تاريخ اليهود في فلسطين وتسكت كل تاريخ آخر (انظر كيث وايتلام: اختراع إسرائيل القديمة وإسكات فلسطين). المشروع الكولونيالي الصهيوني في فلسطين تضمن, واستند إلى مشروع ثقافي أطلق عليه غسان كنفاني تسمية الصهيونية الثقافية, ولن أجادل فيما إذا سبق السياسي الثقافي, أو استولده, أو العكس, ولا أظن أن ذلك مهما طالما رأينا جدلية العلاقة بين المستويين.
|