قصة الطبيب المجنون :

في كل مرة يجتمع الناس عند سماع صوت ذلك الطبيب المشهور يصرخ وهو في الشارع مكررا نفس العبارات تقريبا يقول فيها وكأن النار التي في داخله هي التي تنطق : أنا السبب ...أنا السبب في كل ما حصل ...ليتني ابتعدت عن أنانيتي وعن المظاهر المزيفة ولم يحصل ما حصل ...  
يقول أحد الناس المجتمعين لرفيقه الذي بجانبه : ماذا يقصد أنه السبب فيما حصل ؟؟!!! ما هي حكاية ذلك الشخص ؟؟!!!
يجيبه رفيقه بأسى مطلقا زفيرا عميقا  : آه ... هل تعرف أن هذا الشخص كان من أشهر أطباء العيون في بلدنا وكان له سمعة عظيمة على مستوى العالم في هذا المجال ... ولكن الزمان لا يدوم على نفس الحال أبدا ؛ فعظيم الأمس أصبح على هذه الحال التي تراها ....
الشخص الآخر : ولكن لماذا ؟؟!!! ما الذي حصل ؟؟؟ !! فيجيبه رفيقه قائلا : اسمع ... سأحكي لك حكاية هذا الطبيب : (( كان هذا الطبيب يعيش مع ولده الوحيد بعد وفاة زوجته وكان غنيا جدا يمتلك العقارات والسيارات الفخمة وعيادة ومشفى في وسط المدينة ، وكان ولده يشبه أباه في كل شيء الذكاء والتفوق الدراسي والمظهر ولا يختلف عن أبيه إلا في أمر واحد هو عدم محبته الطب ؛ فهو شاب مرهف الإحساس يكره مناظر المرض والجراحة ورائحة الأدوية ولكنه يعشق فن الرسم : انه يريد أن يصبح مشهورا كأبيه ولكن ليس في مجال الطب و إنما الرسم ، ودائما كان يحصل خلاف بين الأب الطبيب والابن الرسام على هذه النقطة .
بعد حصول الشاب على الشهادة الثانوية وبتفوق دار بين الاثنين هذا الحوار :
الطبيب : حسن يا بني بعد أن انتهيت من دراستك الثانوية عليك أن تجهز أوراقك لتسجل في الجامعة ... كلية الطب تنتظر إبداعاتك أيها البطل وكن على ثقة بأنني سأساعدك طوال دراستك الجامعية وما بعدها .
الابن : ولكني يا أبي لا أحب الطب وأعتقد أنني لن أنجح في هذا المجال أو على الأقل لن أكون بارزا مثلك فيه فأنا لم أخلق لأكون طبيبا  .
الطبيب ( متنهدا ) : عدنا مجددا إلى نفس هذا الكلام ؟ من سيستلم بعدي العيادة والمشفى وسمعتي وشهرتي الطبية التي بنيتها خلال سنوات طويلة  ؟ أريدك يا ابني أن تخلفني في هذا المجال ، بل أريدك أن تصبح أفضل مني كي أفخر بك أمام الجميع ...أريدك أن تصبح امتدادا لي بعد وفاتي واستمرارا لنجاحاتي وشهرتي ..لا تخيب أملي يا بني ...
الشاب الرسام : ولكني أستطيع أن أجعلك فخورا بي من خلال الرسم الذي أعشقه ولا أستطيع أن أعيش بعيدا عنه .
الطبيب ( بلهجة المنزعج ) : يمكنك أن تكون طبيبا وترسم في نفس الوقت ؛ فليس هناك ما يمنع .
الشاب : هل تستطيع أنت يا أبي أن ترسم ؟ لقد خلق الله الإنسان ليؤدي عملا ويحقق هدفا أعد له وويل لم يعمل غير عمله فيموت من قهره .
الطبيب ( بعصبية وحزم )  : لقد انتهى الأمر وقررت : لن تكون إلا طبيبا كما أردت أنا وعليك أن تنسى موضوع الرسم هذا . سأذهب غدا إلى الجامعة وأقدم أوراقك إلى كلية الطب للتسجيل فيها  .
وغادر الأب المكان تاركا ولده الذي شعر أنه سيكون من الآن فصاعدا في زنزانة حقيقية حيث سيعيش الحياة التي أرادها والده وليس الحياة التي أرادها وسيعمل عمل والده وليس العمل الذي يحب .
مضت سنتين على دخول الشاب كلية الطب والفشل كان حليفه دوما ، ويبدو أن لن يتحرك من السنة الأولى أبدا ، أما الأب فلا يكون منه إلا أن يطلب من ولده الاستمرار والمحاولة مجددا وهكذا دون فائدة ...
وكان هذا الفشل الدائم قد أفقد الشاب ثقته بنفسه وجعله يشعر أنه دون أقرانه بعد أن كان من البارزين وأنه غارق في مستنقع الخيبة والفشل ولن ينقذه منه سوى حل وحيد طالما فكر فيه ...
في أحد الأيام جاء الأب الطبيب إلى منزله وكما هي العادة دخل غرفة ولده ليطمئن عليه فوجد ولده مرفوع جسده عن الأرض بواسطة حبل طويل معلق في السقف وملفوف حول عنقه ..... لقد شنق نفسه منتحرا ليقول لوالده بلغة غير لغة الكلام التي لم يسمعها  : لا أريد ما أردت أنت ، و أنا لست صورة عنك . أنا لي شخصيتي الخاصة وآمالي وآلامي ولا أريد ما جمعته لي من الشهرة والمال ...أبقيها لك أنت ؛ إذ أنك لطالما أحببتها وعشت من أجلها .
ما أن رأى الأب هذا المنظر حتى أصابه انهيار عصبي نقل إثره إلى المشفى للعلاج ولكن لم يحظى به أبدا وهو على هذه الحال منذ ذلك الوقت .
هذه هي حكاية ذلك الطبيب يا صديقي إن شعوره بالذنب تجاه ولده لا يفارقه أبدا ويشعل في داخله نارا تحرقه على ولده الذي فقده بسبب أنانيته كأب ومراعاته للمظاهر المزيفة على حساب حياة ابنه ورغباته .   

                                     تأليف جورج عساف